الصحة والغذاء

المغذيات المجهرية قليلة التركيز عظيمة الوقاية

العناصر الغذائية النزرة (Nutritional Trace elements) هي عناصر معدنية يحتاجها الإنسان بكميات لا تكاد تذكر, ولكنها إذا غابت عن الجسم تسبب له العديد من الأمراض.

من هنا يحب البعض أن يسميها المغذيات المجهرية (Micronutrients) وكأن نسبة وجودها من التناهي في الصغر، أنك لا تراها إلا بالمجهر. وأهمها الحديد والنحاس والمنجنيز والفلور والزنك واليود والسيلينيوم.

وتقدر بعض الإحصاءات أن 800 مليون بيت في العالم (معظمها في العالم الثالث) يعاني من ضعف في توفير الغذاء وبالتالي سوء التغذية بسبب نقص العناصر النزرة.

ومنذ عقود والأبحاث جارية لإبراز أهمية هذه العناصر في وقاية الإنسان. وبفضل اكتشافات العلماء تعمل السلطات الصحية حول العالم جاهدة لسد النقص الحاصل في البرنامج الغذائي لسكانها من هذه العناصر. 

وقد لاقت هذه الجهود نجاحًا باهرًا مع اليود وبعض النجاح مع الحديد. ولكن لازال الكثير ينكشف حول أهمية هذه العناصر للجسم، والحاجة الملحة لسد النقص في الغذاء من بقية العناصر. وقد عقدت مؤخرًا ندوة لمراجعة آخر ما خرجت بها معامل وتجارب الخبراء في هذا المضمار شديد الأهمية.

أولاً: الزنك.. وقاية من الإسهال والملاريا والالتهاب الرئوي

نقص الزنك في البرنامج الغذائي يعرض الكثير من الأطفال إلى خطر الإصابة بالأمراض أو الوفيات الناتجة عن الأمراض المعدية.

آخر النتائج في هذا المضمار تبشر بالخير. فمن تسعة تجارب أجريت لمعرفة دور الزنك في الوقاية من الإسهال في قطاعات من سكان العالم النامي جاءت 6 منها تقول إن هناك انخفاضًا في الإصابة بالحالة إذا تعاطى الأطفال عنصر الزنك في شكل أدوية خارجية. بلغ نسبة الانخفاض بالمتوسط 18%، ويصدق التأثير سواء كان ذلك عند الإسهال المستمر أو الإسهال الحاد. أما الالتهاب الرئوي فقد وجدت 5 تجارب أن تناول الزنك الخارجي يقلل من فرص الإصابة بالمرض حتما. ثم هناك الملاريا التي شهدت 3 تجارب بعض الوقاية من الإصابة بها إذا تم تناول الزنك الخارجي.

وفي تجربة واحدة في الهند حدث انخفاض مقداره 68% في معدل وفيات الرضع الذين كانوا أقل حجمًا من الطبيعي أثناء الحمل، حيث تم إعطاؤهم الزنك بعد شهر من الولادة وحتى 9 أشهر.

ثانيًا: الزنك والسيلينيوم والنحاس.. مضادة للأكسدة

  هذه العناصر الثلاثة يعتقد أنها مرتبط بعضها ببعض في دفاعها عن الجسم ضد المركبات المؤكسدة للخلايا.

بالنسبة للسيلينيوم فإن النتائج تقول إنه إذا ارتبط بالكبريت فإنه يختزل المركب النيتروجيني المسمى (Peroxynitrite). أي أنها تضاد الأكسدة.

أما النحاس والزنك فإنهما يسهلان عملية فصل الجزيئات البالغة النشاط التأكسدي (Superoxide) إلى جزيئين:  الأوكسجين وبيروكسيد الهيدروجين، وهذا الأخير أقل شراسة في نشاطه المؤكسد للخلايا. دور الزنك والنحاس يأخذ ثلاثة أوجه:  أن تكون جزءًا لا يتجزأ من الأنزيمات المضادة المؤكسدة، وأن تدخل مباشرة في تعطيل التفاعلات المؤدية إلى الأكسدة، وأن تثبت من تركيبة جزيئات البروتين فتكون أقل عرضة للأكسدة.

ثالثًا: الزنك والسيلينيوم.. تحسين المناعة

الزنك عنصر أساسي في كل خلايا الجسم التي تنقسم بشكل سريع خصوصًا خلايا الجهاز المناعي، أو لنقل خلايا الدم البيضاء. بمراجعة للتجارب التي أجريت حديثًا نجد أن خلايا الجهاز المناعي، على مختلف أنواعها، إذا نقص الزنك من الجسم فإنها ينتابها تباطؤ في النشاط.

ومما يؤكد الدور الأساسي للزنك أن الضرر الذي يلحق الجهاز المناعي نتيجة نقص الزنك يمكن إصلاحه بتناول الزنك من الخارج بكميات كافية. ولكن يحذر من المبالغة، فقد وجد أن الجرعات العالية من الزنك تمارس مفعولاً سلبيًا على خلايا الجهاز المناعي، شأنها في ذلك شأن نقص الزنك في الجسم.

أما السيلينيوم فأهميته المناعية تأتي من كونه جزءًا من الحامض الأميني الحاوي على السيلينيوم (selenocysteine). وهذا البروتين يؤدي دورًا في معظم العمليات الكيموحيوية في الخلية، من هنا فإن السيلينيوم له تأثير على الجهاز المناعي. وله دور في وقاية الخلايا المناعية من نوع (neutorphils)، وقايتها من المركبات السامة المؤكسدة  التي تنتجها هي نفسها لقتل الأجسام الغريبة التي تدخل الجسم.

على جبهة الأمراض بعينها فإنه يعتقد أن عنصر السيلينيوم يلعب دورا في وقاية الجسم من مرض (Keshan) الذي يصيب قلوب الصغار بعد أن كشفت الدراسات علاقة بين فيروس يعتقد أنه يسبب المرض وبين هذا المعدن.

رابعًا: الزنك.. علاقة بالنمو الطبيعي للجنين والرضيع

يسود اعتقاد بين المختصين أن نقص الزنك يقيد من نمو الأطفال الصغار. كما أن نقصه يؤثر أيضا على نمو الجنين، ويبدو ذلك التأثير خصوصًا إذا كان نقص الزنك كبيرًا. إلا أن التجارب التي أجريت على البشر تفيد بأن تعاطي الزنك في الشهور الأولى يحسن من نمو الأطفال إذا كانوا أصلاً في فترة وجودهم في الرحم من ذوي النمو البطيء.

خامسًا: الحديد والزنك.. تأثير على القدرة الذهنية والحركية للأطفال

ثلاث دراسات فحصت العلاقة بين تناول الزنك من جهة وبين النشاط عمومًا عند أطفال المدارس، ووجدت أن للزنك بالفعل تأثيرًا إيجابيًا على نشاط هؤلاء الطلاب.

جدير بالملاحظة أن الأطفال الذين يعانون من نقص الزنك لديهم ضعف في القدرة الذهنية والحركية، مما يعني أن للزنك دورًا ما. بينما لا تنفع الأدوية الخارجية المحتوية على الزنك في ممارسة تأثير إيجابي لأن الزنك الذي يتم تناوله عن طريق الطعام يكون هو الأنسب.

أما الحديد فقد لوحظ له تأثير على التطور العصبي والسلوكي عند الناس. فإن فقر الدم الناتج عن نقص الحديد، إذا أصيب به الإنسان في أول حياته يؤثر بشكل مزمن على تطور قدراته العصبية وربما الذهنية. ولا غرابة في ذلك فإن أي تغير يطرأ على الناقلات العصبية (neurotransmitters) في أول الحياة حتمًا سيترك تأثيره على مناطق معينة من المخ.

سادسًا: العناصر النزرة تتفاعل بعضها مع بعض

أثناء الحمل فإن العناصر الغذائية يتم تحويلها من الأم إلى الجنين من خلال المشيمة. وقد كشفت الدراسات مؤخرًا أن نقص الحديد يؤدي إلى زيادة مستويات النحاس في كبد الأم ودمها وكذلك في المشيمة نفسها. ولولا أن المشيمة تقوم بتعديل هذا النقص (بزيادة امتصاص الحديد) لكان هذا النقص في الحديد أصاب كبد ودم الجنين بأضرار كبيرة..

إذًا هناك تفاعل بين العناصر لا ينبغي تجاهل أهميتها. من جهة أخرى فإن نقص الحديد يؤثر على مستويات (cytokine) في المشيمة، وهي من المركبات المنظمة لعمل الخلايا، وعلى غيرها من المركبات التي تنظم عمل الخلايا. هذا  التفاعل بين هذه العناصر بعضها مع بعض وبينها وبين مركبات أخرى في منتهى الأهمية أثناء الحمل، عندما يكون الجنين في طور النمو ومعرضًا للتأثر بالتقلبات الحاصلة في العناصر النزرة.

ولعل الحل يكمن في إنتاج نباتات وفيرة العناصر النزرة

نقص العناصر النزرة أو (المغذيات المجهرية) في الغذاء اليومي مشكلة تعم كل القطاعات السكانية وفي كل أنحاء العالم. وقد اتبعت لإصلاح ذلك الوضع عدة استراتيجيات منها: إضافتها إلى الغذاء، وتعديل أساليب تحضير الطعام للحد من فقد هذه العناصر في عمليات تصنيع الغذاء.

ولكن هناك أسلوبًا آخر يكاد يفرض نفسه حلاً في ظل التطورات الحادثة في عالم التقنية الحيوية، ونعني بالطبع الهندسة الوراثية. فالنباتات من طبيعتها أنها تمتص الكثير من العناصر من التربة. وهذه العناصر تعطي النبات قدرته على تصنيع المركبات الحيوية التي يحتاجها الإنسان في طعامه اليومي من معادن وفيتامينات وما إليها.

من هنا فإن العلماء يفكرون في تحسين قدرة النبات على امتصاص هذه العناصر والاحتفاظ بها، وذلك بتعديل التركيبة الوراثية لهذه النباتات (Genetically modified Plants).

والأبحاث في هذا الصدد تهدف إلى زيادة العناصر النزرة في النباتات. من هذه التوجهات:

– إدخال مورثات (جينات) خاصة في النبات تحسن من امتصاص هذه العناصر من التربة.

– إدخال مورثات خاصة في النبات تنتج بروتينات تلتصق بهذه المعادن (element binding protein) بعد امتاصصها.

– إدخال مورثات خاصة لإنتاج نباتات لا تحوي الكثير من المركبات التي تثبط امتصاص هذه العناصر، مثل الفايتات (phytates).

نرجو لهؤلاء الباحثين كل التوفيق، لأننا مقتنعون أن تناول هذه العناصر عن طريق الغذاء أضمن للصحة وأكثر فاعلية من تناولها في شكل أدوية مقوية. (ولا ننسى أن نعتذر بالطبع للذين يعارضون إنتاج الأطعمة المعدلة وراثيًا).

ترجمة وإعداد: مروة كامل

تابعنا

تابع الصحة والغذاء على مختلف منصات التواصل الاجتماعي

الصحة والغذاء إحدى بوابات دار   دار اليوم