الصحة والغذاء

اغتيال براءة الأطفال بشراب الكولا

فجأة تبدلت حال الصغيرة، غدت أكثر عصبية وتوترًا، تثور لأتفه الأسباب وأصبحت على غير العادة تنام لفترات طويلة، تقوم بعدها تشكو من صداع برأسها شديد.

 تأملت الأم هذا الحال وراحت تسأل نفسها عن السر. وأخيرًا فطنت إلى أن صغيرتها لم تأخذ في الأيام الأخيرة أشربة الكولا التي اعتادت أخذها كل يوم. وإذن فهي تعاني بعض مظاهر الإدمان بسبب نقص مادة الكافيين التي تعودها جسمها النحيل.

إن الباحثين يستطيعون الآن إثبات أن ثمة تغيرًا سلوكيًا يصاحب الإقبال على تناول أشربة الكولا، من حيث التعود والاحتمال وظهور علامات السحب، وهي الأعراض التي تظهر بمجرد التوقف عن أخذها كأن يشكو الإنسان من التوتر والاضطراب وتعتريه آلام الصداع بل إنه ليشعر أحيانًا بالغثيان.

وإن الأطفال الذين يتناولون أشربة الكولا في المساء يأرقون عادة ولا ينامون. والسر يكمن فيما تصنعه مادة الكافيين من تنبيه للجهاز العصبي المركزي وخصوصًا الأجزاء العليا منه.

والأطفال هم أكثر الفئات استجابة لهذا التنبيه لأن أجهزتهم العصبية هي الأوفر حسًا، كما أن أجسامهم أصغر حجمًا. وعلى هذا النحو يبقى الطفل متيقظًا مورقًا. ويمتد تأثير أشربة الكولا على النوم إلى جميع مراحله. فتناول عبوة واحدة من الكولا قبيل الذهاب للنوم بـ 30-60 دقيقة، يطيل في زمن ما قبل النوم، ويزيد من فترة النوم الخفيف وينقص كثيرًا من فترة النوم الصحي الأعمق.

ولأجل ذلك تعد أشربة الكولا من «الأدوية الخفية» التي يتوجب عدم إعطاء الأطفال شيئًا منها. ولأن خطر إدمان الكولا حقيقي، فقد أجرت الجمعية الأمريكية للطب النفسي دراسة عن حال الطفل الذي تعود أن يتناول 6 عبوات كولا في اليوم. وخلصت إلى أن الطفل يصبح لفترة قصيرة أكثر انتباهًا، ولكن سرعان ما يغدو متوترًا وعصبيًا وقلقًا للغاية.

ويعلق البروفيسور «ميشيل جاكبسون» مدير مركز أبحاث الصحة العامة في واشنطون على هذا بقوله: «من الجنون أن نضع الكافيين في أشربة يأخذها أطفالنا ونحن نعلم أن لها تأثيرًا إدمانيا عليهم». بل إن إدمان الكولا قد يطال الأجنة في ظلمات الأرحام. فعن طريق الأم وما تأخذه من أشربه طوال شهور الحمل تبدأ بذور الإدمان تنبت لدى الجنين.

مشروب عالمي

بات شراب الكوكاكولا اليوم شرابًا عالميًا بعد أن فتحت له سائر البلدان بحسبانه معلمًا من معالم العولمة. حتى أن الكثيرين اليوم يستعيضون عن الماء القراح في مآدبهم الرسمية وغير الرسمية بهذا الشراب وتجد عبواته تتصدر موائد الآكلين في المطاعم والفنادق، كما يجدها التلاميذ في المقاصف والمسافرون في رحلات الطيران. وتجلب عبواته بشتى الأحجام إلى البيوت بكميات هائلة سواء بسواء مع سائر خزين الغذاء. كما أضحى الصغار يتناولون منه مقادير كبيرة في الصباح والمساء ومع كل وجبة طعام، وفي أوقات أخرى من دون وجبة طعام.

وتدل الإحصائيات على تعاظم استهلاك الأشربة الغازية (المكربنة)، وأشربة الكولا منها على وجه الخصوص. لكن هذا لا يعني بالطبع أنها ذات نفع غذائي تقتضيه صحة الإنسان بل إن الدعاية الضخمة وحملات الترويج التي تقوم بها الشركات هي الدافع وراء هذا الإفراط في الاستهلاك. طوفان من الدعاية رهيب يطلق دعاوى مثيرة عن المتعة واللذة والانتعاش والإرواء. والمشكلة الواضحة هنا هي أن جانبًا من دعايتهم يتوجه إلى الأطفال. وهنا يتعين على خبراء التغذية وصحة الإنسان أن يكشفوا لنا العواقب التي تنطوي عليها هذه الظاهرة وما الذي تصنعه بصحة الأطفال.

المشروبات.. عائلات

رغم أن الأصل في شراب الإنسان الماء القراح، إلا أن رجال الصناعة يغرون الناس بأشربتهم الغازية المكربنة، (Soda POP أوSoft drinks)، ومنها عائلتان كبيرتان: عائلة أشربة الفاكهة (Fruit-Flavored beverages)، وعائلة أشربة الكولا (Cola-Flavored beverdges)، ومن هذه العائلة الأخيرة كوكاكولا وبيبسي كولا، ودايت كولا، وأرسي كولا ودايت بيبسي كولا، وغيرها كثير. وهي تحضر في الصناعة عادة بضغط غاز ثاني أكسيد الكربون في ماء مضاف إليه السكر وتحتوي على مستخلص جوز الكولا والكافيين وزيت الليمون وحمض الفوسفوريك ولون مركب الكراميل.

كولا.. بالكافييـن

المركب الفعال بأشربة الكولا هو الكافيين، ويأتي من مصدرين أحدهما مستخلص جوز الكولا (10% فقط من نسبة الكافيين الموجود بالشراب)، والنسبة الكبرى تعود إلى الكافيين الذي يضيفه الصانعون مباشرة إلى الشراب. وإن دراسات تحليلية أجريت في إحدى الجامعات الأمريكية أظهرت أن بكل عبوة متوسطة الحجم (330 سم3) من أشربة الكولا نحو 30-50 ملليجرامًا من الكافيين. وظهر أن الأشربة التي تباع في المطاعم (كولا مكائن البيع الآلي)، بها قدر أكبر من الكافيين. وتحتوي أنواع الكولا الجديدة التي بدأت تغزو الأسواق على ضعف كمية الكافيين التي كانت سائدة في أشربة الكولا التقليدية، ولا ريب أن وجود الكافيين على هذا النحو يثير قلق خبراء التغذية والمهتمين بصحة الإنسان.

ويحذر الأطباء مرضاهم من مغبة تناول أشربة الكولا التي تحتوي على الكافيين، خاصة مرضى القلب وقرحة الاثني عشري الذين يشكون من زيادة حموضة المعدة أو التهاب المريء، والذين يتعاطون مهدئات الأعصاب والعقاقير المنومة الجالبة للنعاس. ومن أضرار الكافيين أيضا أنها تزيد في طاقة القلب وتضيق الأوعية الدموية السطحية بالجلد فتزيد في الضغط الدموي الشرياني، وتنبه المراكز العصبية على نحو مثير، وتتداخل سلبيًا مع العقاقير المنومة ومهدئات الأعصاب.

وفي تجربة أجريت بكلية الطب جامعة نيويورك شملت عشرة آلاف متطوع تضمنت إعطاء بعضهم عقاقير مهدئة مع أحد أشربة الكافيين. ووجد أنه نتيجة للتداخلات السلبية التي تحدثها فإن تأثير العقار المهدئ أو المنوم يقل بدرجة ملحوظة، مما تطلب زيادة جرعة العقار بنسبة 40% حتى يبدأ في العمل وإحداث التأثير المطلوب. ولئن كان هذا هو فعل الكافيين في أعصاب الكبار فما ظنك بالصغار!

شراب بالفوسفوريك

تضيف شركات صناعة الكولا حامضًا معدنيًا هو حمض الفوسفوريك إلى ما تنتجه من أشربة. ويزعم خبراء الصناعة أن هذه الإضافة تساهم في معادلة الطعم الحلو لسكر الشراب وتنقص رقم الحموضة (pH) إلى الحد الذي يوفر حفظ المنتج فضلًا عن إكسابه طعمًا حمضيًا لاذعًا مميزًا يرضى عنه الشاربون.

وإننا إذ نقيس درجة حموضة أشربه الكولا نجدها تبلغ نحو (2.6 pH). وهذه تبدو برأي باحثي التغذية حامضية شديدة قد تؤذي صحة البعض من الشاربين. وها هي دراسة أجريت في الولايات المتحدة، أظهرت أن هناك زيادة في شكوى البعض من زيادة حموضة المعدة عقب أخذ أشربة الكولا. وقد ندد الباحثون بهذه الأشربة، لاسيما لدى المرضى الذين يشكون من زيادة حموضة المعدة ولدى هؤلاء الذي يعانون من التهابات المريء الناجمة عن تراخي الصمام الواقع بين المعدة والمريء.

الفوسفوريك وعظام الأطفال

لا تحب عظام الأطفال أشربة الكولا الغازية ولا ترحب بها على الإطلاق، فقد تبين أن ثمة علاقة وثيقة بين استهلاكها بانتظام وباستمرار وتعرض الأطفال مستقبلًا لكسور في العظام بمعدل يزيد ثلاث مرات عن المعدل المألوف. وقد لفت الباحثون النظر منذ فترة إلى عواقب الإقبال على أشربة الكولا وضعف الإقبال على شرب الحليب، لاسيما لدى الفتيات الصغيرات فهذا مما يزيد من تعرضهن للإصابة بمرض هشاشة العظام عندما يبلغن سن الإياس. وهذه الظاهرة تعود في الأساس إلى حمض الفسفوريك الموجود بالشراب. فما الذي يحدث إذن؟

يقول البروفيسور إيميل جاستون: «زجاجة الكولا وهي التي تنطوي على 102 ملليجرام حمض فوسفوريك تعرقل توازن الكالسيوم إلى نسبة الفوسفور مما يفضي إلى نقص فاحش في عنصر الكالسيوم بالعظام الثقيلة». هذا لأن الشراب يساهم في زيادة نسبة الفوسفور، ومن ثم يقلل من نسبة الكالسيوم إلى الفوسفور.

وبهذه المناسبة فإن وجود الكالسيوم والفوسفور في أغذية الطفل خلال فترة نموه بنسبة (1:1) هو الضمان لحدوث أعلى مستوى لامتصاص الكالسيوم في حين ينتج عن زيادة نسبة الفوسفور حدوث نقص في الكالسيوم، ومن ثم تتدهور عملية التكلس Calcification بالعظام.

إن عملية التكلس هي التي تحدث نتيجة لتجمع جزيئات فوسفات الكالسيوم الثنائية Ca2 HPO4، التي تتكثف ثلاثة جزيئات منها لتكون جزيء فوسفات الكالسيوم Ca3 (PO4)2، ويلي ذلك انضمام أيونات الفلور والهيدروكسيل والكربونات لتكون المركب البللوري المعروف باسم هيدروكسي أباتيت، وهو المسئول عن إعطاء هيكل العظام الصلب، في حين يؤدي النقص في عملية التكلس إلى جعل العظام تنشأ ضعيفة وتبقى لينة وذات مسام وسريعة العطب، فأقل صدمة تحدث فيها كسرًا.

وفي دراسة أجريت على الأطفال في المكسيك لاحظ الباحثون أن الأطفال الذين يأخذون أشربة الكولا بانتظام وباستمرار يزيد في دمائهم معدل الفوسفور، ويتدنى معدل الكالسيوم على نحو مثير. ولاحظوا أن الكالسيوم يقل بشدة كلما أفرط الأطفال في الشراب، ولكنهم حين اقترحوا على الآباء منع أطفالهم من أخذه لمدة شهر ثم أعادوا التحليل تملكتهم الدهشة، فقد عادت نسبة الفوسفور الزائدة أدراجها إلى الحد الطبيعي المألوف وبدأت تتصاعد نسبة الكالسيوم، ومن ثم حدث التكلس في العظام على أوفق حال. وهنا أصبح الباحثون على ثقة من شيء: وهو أن أشربة الكولا عدو من أعداء العظام.

الكولا وحصيات الفوسفات

هل توجد علاقة بين الحصيات الكلوية وشراب الكولا؟

أجل إن له علاقة وثيقة بحصيات الفوسفات. وهي تلك التكوينات التي تسبب نوبات من آلام شديدة مبرحة تبدأ عادة من الخاصرة ثم تنزل على مسير الحالب وخلال ذلك تزيد الآلام حتى ليتمنى المرء لو أنه كان ترابًا. إن أنواعًا من حصيات الكلى قد تتشكل من أملاح الفوسفات. ولا ريب أن أشربة الكولا بما تنطوي عليه من فوسفوريك يمكن أن توفر مصدرًا من مصادر أملاح الفوسفات في الأبوال. ويساعد تفاعل البول القلوي وقلة حجمه في الإسراع بترسيب الفوسفات الذائب في صور حصيات.

إن ثمة تجربة أجريت بغرض توثيق علاقة «أشربة الكولا» بعودة الإصابة بالحصيات الكلوية للمرضى الذين شخصت لديهم من قبل حصيات. لقد تم توزيع المرضى على فئتين، فئة منعت من أخذ أشربة الكولا على الإطلاق، وفئة سمح لها بأخذ الأشربة. وأجريت التجربة مرارًا وتكرارًا، وفي كل مرة كان المرضى الذين سمح لهم بأخذ كمية تزيد عن نصف عبوة كولا يوميًا معرضين بشدة لعودة الإصابة بالحصيات، موازنة بالفئة الأخرى التي منع عنها الشراب.

تهديد أسنان الصغير

أشربة الكولا مفرطة في حموضتها. وهي بذلك تهيئ المجال لتسويس ونخر أسنان الأطفال. إن من شأن الفوسفوريك مهاجمة سطح الأسنان المحيطة وإذابة المادة الصلبة المكونة للمينا، بل وتعرية العاج الموجود أسفلها. ويستطيع الحمض شيئًا فشيئًا إحداث خدوش دقيقة بالمينا والعاج، تكون كافية لبدء تسويس ونخر عدد كبير من الأسنان وبخاصة الأمامية منها. وهي الأكثر تعرضًا لجرعات الشراب الحمضي لدى اندفاعه على الدوام داخل الأفواه.

ويلفت نظر أطباء الأسنان شيوع هذه الظاهرة بين الأطفال الذين درج الآباء على تزويدهم بعبوات من البلاستيك بها شراب الكولا حتى يأخذوا منها أثناء لعبهم وطوال ساعات وجودهم بدور الحضانة على وجه الخصوص.

ومن هنا لا بد من إقناع الآباء بأنه لحماية أسنان أطفالهم لا بد أن نبعدهم عن مصادر الضرر ولا بد أن يعرفوا أن أشربة الكولا الغازية هي واحدة من هذه المصادر. وهذا يقتضي أن يغير الآباء من بعض عاداتهم كأن يعبر الأب عن إعجابه بأي تصرف حسن من تصرفات طفله بأن يعطيه مالًا ليشتري بها حلوى وأشربة غازية أو يشتري هو بنفسه أي نوع منها ويقدمه له. ومثلما يحدث حينما يخرج الآباء مع أطفالهم للتنزه حين يعتبرون أن شرب زجاجات الكولا إنما هو نوع من الترفيه على الأطفال.

الدكتور فوزي عبدالقادر الفيشاوى – أستاذ علوم وتكنولوجيا الأغذية

تابعنا

تابع الصحة والغذاء على مختلف منصات التواصل الاجتماعي

الصحة والغذاء إحدى بوابات دار   دار اليوم