الصحة والغذاء

إنفلونزا الخنازير.. أسرار وأخطار

غريبة هي أمراض القرن الواحد والعشرين… تطفو على السطح فجأة بلا مقدمات لتتسارع وتيرة انتشارها بسرعات تتكشف فجأة بإصابات بشرية مفزعة.

 الأغرب أن هذه الفيروسات العالمية، بداية من «جنون البقر»، مرورًا بـ«إنفلونزا الطيور»، نهاية بـ«إنفلونزا الخنازير»، جميعًا تغزو العالم وتتوغل بين بني البشر فينتشر الهلع والذعر على نطاق عالمي  يتحول بقدرة قادر إلى مليارات من الدولارات تجد طريقها إلى جيوب شركات الأدوية..

إنعاش شركات الأدوية

عقب الإعلان عن تفشى وباء إنفلونزا الخنازير في العالم، أعلنت منظمة الصحة العالمية WHO أن انتشار فيروس «إنفلونزا الخنازير» أمر يدعو للقلق العالمي فيما يخص الصحة العامة، ورفعت حالة التأهب إلى المرحلة الرابعة في سلم من ست درجات، مشيرة أيضًا إلى أنه لا يوجد أيّ لقاح يحتوي على فيروس إنفلونزا الخنازير الراهن الذي يصيب البشر. وقالت المنظمة إنه لا يعرف ما إذا كانت اللقاحات المتوافرة حاليًا لمكافحة الإنفلونزا الموسمية قادرة على توفير حماية ضد هذا المرض، ذلك أنّ فيروسات الإنفلونزا تتغيّر بسرعة فائقة. وحول الأدوية المتوافرة لعلاج هذا المرض، قالت المنظمة إن بعض البلدان تمتلك أدوية مضادة للفيروسات لمكافحة الإنفلونزا الموسمية وتلك الأدوية قادرة على الوقاية من ذلك المرض وعلاجه بفعالية.

والملاحظ أن الهالة الإعلامية التي رافقت مرض «إنفلونزا الطيور» ودفعت العالم، بضغط من منظمة الصحة العالمية، إلى إنفاق مليارات الدولارات، هي نفسها التي ترافق مرض «إنفلونزا الخنازير»، ما يعني أن العالم مقبل على دفع مبالغ جديدة، المستفيد منها هي الشركات المصنعة للأدوية، والتي تأخذ صفة «الشركات المتعددة الجنسيات» التي تفوق ميزانياتها ميزانيات عدد من الدول مجتمعة.
وتشير تقارير تسربت في الأسابيع الماضية إلى أن انتشار فيروس مرض إنفلونزا الخنازير في المكسيك والولايات المتحدة وامتداده لاحقًا إلى دول أوروبية وآسيوية، أسهم في إنعاش شركات الأدوية العالمية وتحديدًا شركة «روش» السويسرية، ما يؤشر، وفق متخصصين في القضايا الوبائية والطبية ومحللين اقتصاديين، إلى وجود أهداف غير معلنة من وراء الضجة الإعلامية العالمية في تناولها لتبعات وخطورة وباء إنفلونزا الخنازير.
ومن المتوقع أن يؤدي تفشي مرض إنفلونزا الخنازير، إلى رفع الطلب على اللقاحات من شركات كبرى مثل سانوفي إفنتيس وغلاكسو ونوفارتس وباكستر إنترناشونال، ولكن تصنيع عقاقير في صورة حقن مضادة للسلالة الجديدة سيستغرق شهورًا.

وقالت مارتينا روب المتحدثة باسم شركة روش السويسرية، إن دواء «تاميفلو» يبدو فعالاً ضد مرض إنفلونزا الخنازير إلى جانب كونه العقار الأكثر استخدامًا لعلاج إنفلونزا الطيور. وأضافت: «يمكن دائمًا استخدام «تاميفلو» كعقار مضاد للفيروسات، وعلى النقيض من الأمصال، لا يحتاج إلى تعديل لكي يعالج أي سلالة جديدة من الإنفلونزا».
ويجري الباحثون في «روش» أبحاثًا بهدف تحديد أفضل أنظمة الجرعات التي يمكن لمريض إنفلونزا الخنازير تناولها لتحقيق أقصى فعالية ممكنة للعقار.
أزمة مفتعلة

ويخلص بعض المحللين إلى أن «إنفلونزا الخنازير» أزمة دولية مفتعلة… وذلك لثلاثة أسباب هي:

– لفت أنظار الرأي العام العالمي بعيدًا عن ضغوط الأزمة الاقتصادية العالمية.. بحيث يكون الإحساس بالخطر الصحي أقوى من الإحساس بالخطر الاقتصادي.. وهو ما يؤدي إلى إتاحة الفرصة أمام صناع القرار لكي يتخذوا مواقف معينة قد لا يقدرون عليها في توقيتات أخرى.. أو تخفيف الضغوط عنهم في معالجة الأزمة الاقتصادية.. وتذهب تحليلات عديدة في هذا الاتجاه.. وترى أن الهدف هو شغل الناس عن الموضوع الأخطر.. وتضرب أمثلة بالترويع الذي تعرض له العالم على مدى سنوات قليلة ماضية بشأن أمور مماثلة فى توقيتات بعينها.. (جنون البقر- الحمى القلاعية – الجمرة الخبيثة – سارس – إنفلونزا الطيور.. ثم إنفلونزا الخنازير).

– الاتجاه إلى تطوير الأبحاث العلمية في مجالات الإنفلونزا والأمراض الوبائية.. واستدعاء نفقات مالية غير متوافرة في هذا الاتجاه.. فقد نشرت جريدة «النيوريوك تايمز» تقريرًا ذكر أن الأزمة الاقتصادية أدت إلى تقليص النفقات المالية المخصصة للقطاع الصحي في كل ولاية أمريكية.. مما أدى إلى فقدان الآلاف من العاملين لوظائفهم رغم أن الحاجة تبدو ماسة لجهودهم في مواجهة وباء إنفلونزا الخنازير.

– الرغبة في رفع قيمة وأسهم الشركات الكبرى المنتجة للأدوية في هذا المجال، وزيادة الطلب على منتجاتها، وهو ما جرى بالفعل.. ويلاحظ في ذلك أن أسهم شركة روش ارتفعت بنسبة 4% وأسهم شركة جلاسكو سميث كلاين – وهي شركة بريطانية – ارتفعت بنسبة 3%.. وارتفعت أسهم شركة (بيوتا هولدينجز) الأسترالية التي أصدرت ترخيص دواء (ريلينزا) لشركة جلاسكو.. وهو مشابه لدواء (تاميفلو) بنسبه 8%.

وقال محلل في شركة بريطانية للوساطة المالية إن هناك فائدة متصورة فعلية من انتشار الحديث عن المرض.. ولكنها لن تكون كما حدث إبان الحديث عن إنفلونزا الطيور. وفي ضوء أنه يتم الترويج عالميًا لأن دواء (تاميفلو) و(ريلينزا) هما الأنجع في محاربة السلالة الجديدة من الإنفلونزا، فإن (روش) و(جلاسكو) هما أكبر مستفيد من الهلع العالمي من المرض.. الذي يبدو أنه مصطنع..

ويعتقد الخبراء في الأسواق أن ذلك سوف يؤدي بدوره إلى زيادة الطلب على منتجات شركات (سانوفي افنتيس)، و(نورفاتس)، و(باكستر).. بخلاف (جيليد) التي كان يملك أسهمها وزير الدفاع الأسبق رامسفيلد.

في هذا السياق، في عام 2005 أصدر (راى موينهان)، وهو أحد أشهر الكتاب في المجال الطبي من مجلة (نيو إنجليند) الطبية العريقة، كتاب: (بيع المرض – كيف تحولنا شركات الأدوية جميعا إلى مرضى؟).. وفيه أن شركات الأدوية أعادت تعريف المرض والصحة وبالتالي دواعي وصف الدواء.. مما أدى إلى تحقيق قفزة نوعية في مبيعات الأدوية.. عبر استراتيجية تسويقية مكثفة تستخدم فيها الأطباء والمشرعين الحكوميين والهيئات العلمية والأكاديمية لتوسع سوق مبيعاتها على حساب الأصحاء والمرضى على حد سواء.

ليست جديدة..

  وبخلاف ما قد يعتقد البعض من أن مرض إنفلونزا الخنازير  قد ظهر حديثًا، لكن الحقيقة أن انتشار فيروس h1n2 في الخنازير في أوروبا بدأ في عام 1957، حينها كان مزيجًا من فيروسي إنفلونزا الطيور والإنسان، وكذلك انتشار فيروس h3n2 في أمريكا، الذي مزج بين ثلاثة فيروسات للإنفلونزا من كل من الطيور والخنازير والإنسان، حيث يعتبر الخنزير مستودعًا أو مخزنًا طبيعيًا لفيروسات الإنفلونزا.

 الأغرب من ذلك ما ظهر من أن سبب انتشار إنفلونزا الطيور هو من الدواجن التي كانت تربى مع الخنازير في الصين، وأن الطيور التي كانت تعيش معها في الأماكن نفسها: علفت وأكلت وتغذت على فضلات وبراز وبول ولعاب الخنازير، ودخلت الفضلات إلى تركيب البيض الذي تنتجه هذه الطيور فأصيبت جميعها بالمرض الذي انتشر لبقية العالم.
وفي عام 1976م أصيب أحد الجنود الأمريكيين بإنفلونزا الخنازير، وتوفي على الفور، وانتشرت على الفور حالة من الهلع لأن مسؤولي الصحة بأمريكا توقعوا أن تنتشر الإنفلونزا على شكل وباء قاتل كما حدث عام 1918م، ولكنها تنبؤات لم تقع, أدت إلى استقالة كبار المسؤولين في الصحة الأمريكية، وأضعفت من مصداقية الولايات المتحدة في الصحة العامة، ونالت آنذاك من سمعة الرئيس الأمريكي جيرالد فورد.
وفي مطلع عام 1977م نشرت صحيفة (نيوزداي) الأمريكية تقريرًا أشارت فيه إلى إن الجماعات الكوبية المناوئة لكاسترو والتي تعيش في أمريكا قد أدخلت بالتعاون مع وكالة المخابرات المركزية فيروس (حمى الخنازير الإفريقية) إلى كوبا عام 1971م، وأضافت: أن الفيروس قد وضع في علبة وأرسل عن طريق أحد المسافرين إلى كوبا, هذا ولم يؤثر ذلك الفيروس في الإنسان ولكنه قتل حوالي خمسين ألف خنزير, وقد كشفت هذه القصة أثناء التحقيق مع عضو في المجموعة الكوبية التي تعيش في المنفى بتهمة ممارسة الإرهاب, وقد كشف هذا العضو بدوره عن تورط المخابرات الأمريكية في عملية نقل الفيروس بدفعها مبالغ كبيرة لتنفيذ العملية.
وفي إحدى المعارك في إفريقيا وشبه جزيرة أيبريا حيث تسممت لحوم الخنازير مما دمر الصناعات المرتبطة به، ووصلت إلى شمال أوروبا أيضًا!! لذلك نجد في بعض الدول الغربية إجراءات شديدة الصرامة في هذا الإطار عند استيرادها لأي حيوان من دولة أخرى, على سبيل المثال تتطلب إنجلترا فترة حجر صحي للكلاب تصل إلى ستة أشهر, قبل أن تدخلها في العمل العسكري لضمان خلوها من الأمراض، وهذا كما هو حاصل اليوم في إنفلونزا الطيور, وفي الولايات المتحدة تشترط أن تنقى التربة من تحت البضائع المستوردة من أوروبا بإزالتها وإتلافها تمامًا.
حيث لا زلنا نخشى من تفشي مرض إنفلونزا الخنازير وسرعة انتشارها ونخاف من أن يصبح هذا المرض الوافد إلينا وباء يهدد الصحة العامة وبالتالي حياتنا.

*تقرير نشر في مجلة عالم الغذاء /النسخة الورقية عام 2008م

تابعنا

تابع الصحة والغذاء على مختلف منصات التواصل الاجتماعي

الصحة والغذاء إحدى بوابات دار   دار اليوم