الصحة والغذاء

أطعمة العرب في زمن الفتوحات

حين انتشر الإسلام في الأرض واتسعت الفتوحات في العصر الأموي وانهار الكيانان الفارسي والرومي، دخلت أمم كثيرة في الدين الجديد، وكثرت الإماء والجواري، وملأت القصور في العهدين الأموي والعباسي وساد الترف.

ولقد كان للتداخل الحضاري بين العرب وغيرهم من الأمم أثر كبير في تغيير كثير من العادات وطرق الحياة التي عاش عليها العرب في جاهليتهم وصدر الإسلام، ومع ذلك فإن كثيرًا مما كان عليه العرب في جاهليتهم من أطعمتهم ظل في حياتهم، لأن حياة العرب في البوادي والصحارى والانتقال فيها ظلت كما هي عليه.

إن اختلاط الأمم تحت راية الإسلام، وتمازج الشعوب، والإقامة في المدن والمناطق الزراعية طبع الحياة الجديدة بسمات طارئة فبرزت أطعمة وأكلات لم تكن معروفة عند العرب وعادات في اللباس حديثة كالأقمصة والأعلام والأردية وطرز الأكمام والعصائب والوقايات والأوشحة.

 وكان لبناء المدن وتوسعها وبناء القصور ووجود الحاشية والجند والحراس والخدم أثر في تطور الطعام لدى العرب، فهذه للمجموعات من البشر المحيطة بالخلفاء والوزراء والقواد تحتاج إلى طعام تأكله حتى تبقى ملتصقة بهؤلاء الرؤساء تقوم على الخدمة وتلبية الحاجات. وكان لا بد من نشوء مطابخ كبيرة تقوم بأود هؤلاء البشر، ولا بد من وجود مختصين في صنع الأطعمة ولا سيما أن الأذواق مختلفة وطرائق الحياة المجتمعة في هذه التكتلات البشرية متباينة.

ولعلنا نذكر ما ذكره البعض من أن سليمان بن عبدالملك قد دخل بستان عمرو بن العاصي في الطائف وبصحبته عمر بن عبدالعزيز وولده فجلس وأسند ظهره إلى شجرة وسأل قيم البستان عما عنده من طعام فأتاه بجدي كأنه عكة سمن فأكله وسأل القيم مزيدًا فجاءه بخمس دجاجات فأكلها وسأله مزيدًا فجاءه بوعاء فيه عجوة معجونة بالسمن فأتى على ما فيها ثم سأله ماذا طبخ للناس فأجاب إنها إحدى وثمانون قدرًا فراح سليمان يتذوقها قدرًا قدرًا ثم دعا الناس إلى الطعام وجلس فأكل معهم.

إن إحدى وثمانين قدرًا لا يمكن أن تكون نوعًا واحدًا من الطعام. ومعنى هذا أنها أطعمة متنوعة ما كانت العرب تعرفها في الجاهلية وصدر الإسلام دخلت إلى المطبخ العربي آنذاك بفعل تداخل الحضارات.

 والمتتبع لأسماء الأطعمة التي كانت محط العناية عند العرب في العصرين الأموي والعباسي يجد أسماء لا تحدد طبيعتها المعاجم ولا مكوناتها وهي من أسمائها تدل على أنها أطعمة دخيلة: كالسكباخ والغالوذج واللوزبيخ.

ولكننا نستطيع أن نقرر أنه كان هناك نوعان من الطعام، أحدهما لعامة الناس وسنذكر قسمًا منها، وثانيهما كان للقصور ومجالس الغناء والإماء والجواري حيث كان لهذه المجالس رسوم وعادات وقواعد وأخلاق متبعة لا يتعدى حدودها. وكانوا قد تعارفوا على اتباعها فإن خرج واحد عنها فإن ذلك يسقط قيمته، وسنبين فيما يتبع بعض هذه الرسوم والعادات.

ورغم إن الأطعمة العربية في الجاهلية وصدر الإسلام ظلت متوارثة في العصرين الأموي والعباسي، لكن ظاهرة جديدة برزت لم تكن موجودة من قبل وهي بروز المطاعم العامة التي يردها الناس ويأكلون فيها. وكان الشواء هو الطعام الرئيسي.

 وقد قدم لنا الأديب بديع الزمان الهمزاني في مقامته البغدادية صورة رائعة عن مطاعم الشواء، فعيسى بن هشام بطل المقامة يحتال على الفلاح أبي عبيد ويدعوه لتناول الطعام في السوق لأن السوق أقرب وطعامه أطيب ويسمي الفلاح أبا عبيد باسم أبي زيد. ويطمع الفلاح ويدخل مكان الشواء ويبدأ عيسى بن هشام يلقي الأوامر للطباخ بشيّ اللحم ووضع الأيازيز فوق اللحم المفروم، والعناية باللحم وإحضار الخبز المرقق، ورش ماء السماق على اللحم، وإحضار الحلوى ويأكل الفلاح طربًا. ويتم عيسى بن هشام احتياله فيستأذن في إحضار ماء مشعشع بالثلج ويخرج من دكان الشواء ويترك الفلاح لقسوة الشواء الذي يضطره لدفع ثمن الطعام.

ومن الأطعمة التي ذكرها لنا بديع الزمان الهمزاني المضيرة وهي اللحم المسلوق في اللبن الرائب الحامض المطبوخ وهي التي تسمى في يومنا هذه الشاكرية، وقد خصها بمقامة متفردة تعد من أروع ما قدم في وصف الطعام في الأدب العزبي وهو في هذه المقامة يبدأ بوصف عناصر المضيرة عنصرًا عنصرًا في أسلوب يتفرد بالإسهاب في الوصف وتناول الجزئيات وبأسلوب ساخر بديع.

ومن الأطعمة التي سادت في العصر العباسي السكباج وهو لحم يسلق ثم يضاف إلى مرقة الأبازير والكلى والخل التي تعطي المرق ذكاوة ولذاذة. وكان السكباج طعامًا مفضلاً لدى عامة الناس ولا يزال هذا الطعام سائدًا حتى يومنا هذا ويسمونه في بلاد الشام اللحم بالخل أو اللحم بالحامض.

وقد ذكر أحد الطفيليين أطعمة كانت سائدة في زمنه:

ألا ليت لي خبزًا تسربل رائبًا    وخيلاً من البرني فرسانها الزبد

فأطلب فيما بينهن شهادة     بموت كريم لا يشق له الحد

ومن أطعمتهم الربيكة وهي خليط من بر وتمر والعريقة، وهي طعام يصنع من اللبن مع قطع صغيرة من اللحم. ومن أطعمتهم الهريسة وهي قمح وسمن ولحم وأبازير تطبخ في قدر حتى تنضج ثم تهرس بملعقة كبيرة وتحرك تحريكًا شديدًا ولا يزال هذا النوع من الطعام سائدًا حتى اليوم وهناك أنواع وأنواع يصعب حصرها..

أما حلواهم فكانت التمر الملتوت بالسمن، والأرز الأبيض بالسمن المسلي والسكر، والخبيص الذي يصنع من الربس الزبيب والجوز واللوزنيج هو اللوز المدقوق بالسكر والفالوذج والزلابية وهي ما يسمى اليوم بالعوامة أو لقمة القاضي وكان الفولوذج يصنع من لباب الخبز بلعاب النحل بخالص السمن.

محمد سعيد المولوي

تابعنا

تابع الصحة والغذاء على مختلف منصات التواصل الاجتماعي

الصحة والغذاء إحدى بوابات دار   دار اليوم