الصحة والغذاء

حول العالم مع الفلفل والفانيليا

كنت طفلاً صغيرًا في مدينتي القابعة في شرق دلتا النيل بمصر عندما لفت نظري حانوتًا متواضعًا يزخر بأصناف من الأعشاب العطرية والتوابل يملكه شيخ مسن تفوح من ملابسه روائح ممتزجة لا تستطيع أن تحدد ماهيتها.

لعل منظر هذا الحانوت يتكرر في كثير من قرى ومدن العالم. فبرغم اختلاف الأجناس والثقافات يكاد يتفق البشر على أهمية التوابل في غذائهم ولكن بدرجات متفاوتة، فلكل شعب طريقته في إعداد أطباقه وفي إضافة التوابل إليها. بل إن بعض الشعوب ارتبطت بأنواع من التوابل ارتباطًا وثيقًا، فقد ارتبطت المكسيك مثلًا بالفلفل الحار، بينما ارتبطت الهند بالكاري، وهكذا.

والتوابل بمفهومها العام تشمل كل منتجات الخضراوات العطرية التي تستخدم في الطعام والشراب، ولكن البعض يقصر لفظ التوابل على الأجزاء الصلبة أو المجففة من النباتات التي تستعمل على هيئة مسحوق.

 وتصنف التوابل عادة تبعا للجزء النباتي المستخلص منه التابل، كالتالي:

–  توابل جذرية: مثل الخولنجان والزنجبيل والكركم.

–  توابل الأزهار والبراعم: مثل القرنفل والزعفران.

–  توابل الثمار: مثل الفلفل والفانيليا والينسون والكراويا والكزبرة والكمون.

يرجع تاريخ استخدام التوابل وتجارتها إلى عهود قديمة، حيث تشير مخطوطات وجدت في الأهرامات المصرية أن العمال الذين بنوا تلك الأهرامات كانوا يتناولون البصل والثوم لتعضيد قوتهم وطاقاتهم الجسمانية.

وفي بلاد الرافدين، كانت بابل سوقا كبيرا لتوابل الهند، يتبادل فيها التجّار أنواع التوابل من مختلف البلاد، وكان حكام بابل في ذلك العهد يسعّرونها بنفس سعر الذّهب.

وفي قصة سيدنا يوسف عليه السلام ورد أن الذين التقطوه بعد أن تخلص منه إخوته في الجب كانوا ضمن قافلة لتجارة التوابل متجهة صوب مصر. وورد أيضًا أن بلقيس ملكة سبأ أرسلت هدية إلى نبي الله سليمان – عليه السلام- كان من أهم محتوياتها التوابل، إضافة إلى الذهب والأحجار الكريمة.

ويقال أن الرياضيين الذين انتصروا في أول ألعاب أوليمبية جرت في اليونان عام 1453 ق. م احتفلوا بنصرهم بارتداء أكاليل من الزهور والبقدونس. وفي أوروبا خلال العصور الوسطى ازداد الطلب على تجارة التوابل، وكانت التوابل القيّمة آنذاك تأتي من الصين والهند والجزر الإندونيسية.

وتذكر بعض المراجع أن من أسباب قيام الرّحالة البرتغالي «فاسكو دي جاما» برحلته حول الشواطئ الإفريقية هو البحث عن مصادر رخيصة للتوابل، وقد عاد من رحلته محملًا بأطنان من الفلفل والقرفة والزنجبيل.

وحين وصل كريستوفر كولمبس إلى أمريكا عام 1492م، كان هدفه البحث عن طريق مباشر إلى جزر التوابل، ثم عاد إلى موطنه ومعه كميات كبيرة من الفلفل الحلو والفانيليا والفلفل الأحمر.

ومن غرائب التاريخ أن استعمار «إندونيسيا» كان بهدف السيطرة على تجارة التوابل، فقد بدأ البرتغاليون منذ عام 1516م في السيطرة على جزر الملوك الإندونيسية (أو جزر التوابل كما كان يطلق عليها)، وتمركزوا على الساحل الغربي لشبه جزيرة الملايا ومنه سيطروا على مناطق إنتاج التوابل.

 في القرآن والسنة

جاء ذكر بعض التوابل في القرآن الكريم، منها البصل والثوم الذين ذكرا معًا في آية واحدة (61 – البقرة) حيث يقول تعالى مبينًا جحود اليهود وتمردهم على موسى عليه السلام: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها). وقيل في تفسير معنى فومها هو ثومها.

 وقد نهى الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن أكل البصل والثوم والذهاب إلى المسجد مباشرة. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عنه أنه قال: “من أكل البقلة فلا يقرب مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم”.

 وذكر الخردل في القرآن الكريم في سياق الحديث عن عدل الله المطلق وعلمه الواسع: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئًا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين). (الآية 47 – سورة الأنبياء).

كما يصف القرآن الكريم علم الله وشموله وقدرته وعدله على لسان لقمان الحكيم في (الآية 16 – لقمان): (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير).

وفي صحيح البخاري عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها وقد اسودوا، فيلقون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل، ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية”.

وجاء ذكر الريحان في القرآن الكريم في مجال سرد بعض نعم الله سبحانه على عباده في الدنيا والآخرة، ففي سورة الرحمن: (والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان). وفي سورة الواقعة: (فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم).

وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من عرض عليه ريحان فلا يرد فإنه خفيف المحمل طيب الريح”. وأخرج الترمذي عن النبي أنه قال “إذا أعطي أحدكم الريحان فلا يرده فإنه من الجنة”.

وذكر المولى سبحانه الزنجبيل في القرآن الكريم (الآية 17 – الإنسان): (ويسقون فيها كأسًا كان مزاجها زنجبيلاً).

وأورد أبو نعيم في الطب النبوي عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه، قال: “إن ملك الروم أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم جرة فيها زنجبيل فأطعم كل إنسان قطعة وأطعمني قطعة”.

أما الزعفران فثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يتزعفر الرجل، كما نهى أن يلبس المحرم أو المحرمة ملابس مصبوغة بزعفران. وفسر البعض هذا النهي باعتبار أن الزعفران يهيج الباءة والمحرم لا ينبغي له ذلك.

  صيدلية في مطبخك

مهما كان المطبخ متواضعًا ستجد فيه ركنا تفوح منه رائحة التوابل لما لها من دور رئيس في فتح الشهية وتسهيل الهضم. وداخل أي مطبخ عربي عادة ما تجد واحدًا أو أكثر من هذه التوابل:

· الهيل: أو الحبهان، مادة محسنة للطعم للمأكولات التي يدخل في صناعتها الدقيق والأرز، كما يضاف إلى القهوة العربية. وننصح بعدم الاحتفاظ به مسحوقًا حتى لو كان الوعاء مقفلًا نظرًا لتطاير الزيت الذي يعتبر المادة الفعالة في الهيل، والأفضل سحقه عند استعماله. وطبيًا يستخدم كمادة هاضمة وفاتحة للشهية ومسكنًا للمغص. وفي الطب الحديث يستخدم زيت الهيل في تحسين نكهة الأدوية وفي صناعة العطور.

·  الفلفل الأسود: لثماره نكهة ورائحة مميزتان. وتبقى مواد النكهة في الثمرة ما لم تطحن، لذا يفضل ألا يطحن الفلفل إلا قبيل الاستعمال. وحفظه في مكان بارد وعدم إضافته للطعام إلا بعد طبخه أو قبيل التناول بوقت قصير. والفلفل الأسود فاتح للشهية وهاضم وطارد للغازات ويمكن إضافته للشاي. واستخدمه الصينيون والهنود قديمًا لعلاج السعال والربو وبعض أمراض القلب والتهاب الكلى.

· القرفة: تكسب الأطعمة مذاقًا لذيذًا، وهي محرض ومنظم للهضم. ويعمل منها مشروب. واستعملت قديمًا لمكافحة الصلع بطحنها ثم مزجها بالملح والبصل لتهيئة لاصقة توضع على الرأس في مكان الشعر المتساقط. وزيت القرفة هو العامل الرئيسي في مفعولها المقوي والمنشط للدورة الدموية والتنفس، والقابض للأوعية والمحرك للأمعاء، والمعقم المضاد للتعفن، ولهذا تدخل القرفة في تركيب بعض الأدوية والمستحضرات الصيدلانية.

·  القرنفل: يستعمل إما صحيحًا ومطحونًا كتابل أو بهار للطبخ، كما يدخل في صناعة أنواع من الحلوى، ويضاف إلى المخللات. وقد استعملت براعمه قديمًا لتنبيه الجهاز الهضمي، ويستعمل حاليًا في طب الأسنان كمسكن موضعي، ويدخل في تحضير المضمضة المستعملة في علاج قروح اللثة. وأظهرت دراسة طبية فائدة القرنفل الأحمر المضاف إلى الطعام في الوقاية من الأمراض القلبية بين السيدات المسنات.

· الكركم: يجمع بين خواص الصبغة والتوابل، ومصدر البهار الملون هو الريزومات التي تستخرج من التربة وتنظف وتجفف في الشمس. والكركم رائحته مسكية وطعمه لاذع. ويعطي الطعام نكهة، ويستخدم في تلوين الزبد والجبن والمخلات والمستردة وغيرها من المواد الغذائية. ويدخل الكركم في خلطة الكاري التي تكسب الطعام لونه المميز وطعمه الحريف.

· الزعفران: مادة ملونة ومكسبة للطعم حيث يضاف إلى مأكولات كالأرز والحساء والجبن الطري. ويدخل في بهارات العديد من الأطباق الرئيسية في المغرب وبلاد الشام وشبه الجزيرة العربية. واستخدم الزعفران منذ القدم في علاج أمراض مثل النزلات المعوية، وكمهدئ لاضطرابات المعدة ولعلاج السعال ونزلات البرد. كما يدخل في صناعة الأدوية الحديثة حيث إن له خواص مضادة للسرطان.

· الكزبرة: تستعمل بذورها على هيئة مسحوق، وتستخدم الأوراق الخضراء خاصة في تزيين الأطباق وكنوع من المشهيات. أما في الطب الشعبي فالكزبرة تستخدم مضادة لانتفاخ البطن والمغص وتهدئ من تشنج الأمعاء وتقلل التوترات العصبية. وتدخل الكزبرة في صناعة بعض أنواع العطور.

·  الكمون: تستخدم في تتبيل اللحوم والأسماك. وتزخر كتب الطب الشعبي بعشرات الوصفات التي يدخل فيها الكمون، ويستخدم كعلاج للتشنج وكطارد للغازات، كما يفيد المرضعات في إدرار الحليب. ويستخدم الزيت الطيار المستخلص من الكمون في صناعة العطور.

·    الزعتر: يستعمل كفاتح للشهية، ويضاف إلى الفطائر والكعك فيكسبها نكهة محببة، كما يضاف إلى الجبن لنفس السبب. والزعتر مسكن للآلام ومجدد للدورة الدموية ويستعمل كطارد للطفيليات والغازات ومضاد للمغص ومهدئ، وعلى العموم فهو يقوي جهاز المناعة لدى الإنسان.

الإسراف خطر ومذموم

إذا كان الإسراف مذمومًا في كل أنواع الطعام، فإنه في التوابل مذموم وخطر في الوقت ذاته، لأن الإسراف في إضافتها يؤدي إلى الإصابة بأمراض مثل احتقان البروستاتا وإرهاق الجهاز الهضمي.

كما يحذر خبراء التجميل من خطورة إقبال السيدات على تناول الأطعمة المتبلة والغنية بالبهارات الحارة والتوابل القوية، لأن تناول كميات كبيرة من الطعام الحار يضر البشرة ويفقدها نضارتها وتصاب بالإرهاق والبقع.

أ.د. عبدالمنعم فهيم الهادي – أستاذ الكيمياء النباتية

تابعنا

تابع الصحة والغذاء على مختلف منصات التواصل الاجتماعي

الصحة والغذاء إحدى بوابات دار   دار اليوم