الصحة والغذاء

العطور.. تطهر الجسد وتريح النفس وتعالج القروح والالتهابات

منذ مئة عام تقريبًا، كان كيميائي فرنسي يدعى «رنيه فوسيه» منهمكًا داخل معمله بمصنع العطور في باريس، وحدث انفجار صغير أصاب يده بحروق، ولم يجد بقربه غير وعاء به خلاصة زيت الخزامى، غمس يده في الوعاء، وكانت المفاجأة أن حروق يده شفيت في عدة ساعات، ولم تتخلف عنها أي ندوب بعدها.

تلك الحادثة جعلت ذلك الكيميائي يكرس نفسه لدراسة الاستخدامات الدوائية للزيوت العطرية النباتية على امتداد سنوات طويلة، وفي سنة 1928 نشر أبحاثه في كتاب أسماه «العلاج بزيوت النباتات العطرية»، فدشن بذلك ميلادًا جديدًا لاستخدام خلاصات هذه النباتات في العلاج.

عطور عبر العصور

كان المصريون القدماء يستخدمون الزيوت العطرية للتدليك، والاستحمام، والتداوي، وينشرون عبقها في الاحتفالات. كما استخدموها في تحنيط أجساد الموتى لصيانتها من التفسخ. واستخدموا في ذلك خلاصات العطور النباتية من الأعشاب والزهور والخشب والصموغ. 

ويرجح أن اليونان الأقدمين نقلوا هذه الطريقة للتبخير بالعطور إلى حضارتهم. وبتتابع الحضارات، كان للحضارة العربية الإسلامية نصيب وافر في توظيف الخلاصات العطرية في الحياة والطب. ويرجع الفضل في اكتشاف طريقة التقطير للحصول على الزيوت العطرية من النباتات إلى الطبيب الحكيم المسلم ابن سينا، وهي لا تزال أكثر الطرق استخدامًا للحصول على خلاصات العطور حتى الآن.

لكن الأوروبيين لم يعرفوا شيئًا عن المعالجة بالزيوت العطرية إلا في نحو القرن الحادي عشر عندما عاد بسرها الصليبيون الراجعون من المشرق والذين اكتشفوا أن العرب يستخدمونها في طبهم، وأدهشتهم تأثيراتها المطهرة، ومن ثم راحوا يحرقونها في البيوت والمباني العمومية ليتضوع شذاها منعشًا ومطهرًا.

وانتشرت أبخرة الزيوت العطرية بشكل واسع في المدن الأوروبية أثناء وباء الطاعون لإيقاف اجتياحه، وقد حقق ذلك نجاحًا نسبيًا عزز من مكانة الزيوت العطرية النباتية في أوروبا حتى نهايات القرن 19، إذ انتشرت بعد ذلك الأدوية المصنعة كيميائيًا فقلت المداواة بالخلاصات العطرية النباتية، ثم عادت للظهور في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، على يد الكيميائية مرجريت ماوري وزوجها د. جان فلنت عبر مؤلفهما (سر الحياة والشباب) الذي نشر عام 1962 وركز على استخدام العلاج بالزيوت العطرية بتقنيات طبية حديثة تتوخى أهدافًا تجميلية مقاومة لتأثيرات الشيخوخة على وجه الخصوص.

بعد ذلك توجه الجراح جان فلنت لتطبيق المعالجة بالزيوت العطرية على المرضى النفسيين كبار السن خاصة، وحقق نجاحًا ملحوظًا ذكر نتائجه في مؤلفه (العلاج بخلاصة العطور) الذي نشر عام 1982.

واليوم نرى أن الزيوت العطرية النباتية التي تسمى أحيانًا (الزيوت الأساسية) تستخدم في تنكيه الأطعمة، وتعطير مواد التجميل، والأدوية المنشطة والمهدئة.

خلاصات الزيوت

يتم الحصول على خلاصات الزيوت النباتية العطرية من الجذور والزهور والأوراق وفروع ولحاء بعض الأشجار. وتستخرج هذه الخلاصات من نباتات لم تستخدم في تسميدها أو وقايتها الكيماويات.

وهناك طريقة منتشرة للاستخلاص هي (التقطير) بغلي النباتات وتكثيف أبخرتها، ثم فصل الزيوت عن الماء في النواتج النهائية. ومنها (الحل بالنقع) وهي عملية تقليدية تغمر فيها المواد النباتية في زيت ساخن يجذب جواهرها العطرية.  وهناك طريقة (سحق) الفواكه الحمضية للحصول على زيوتها العطرية. وأخيرًا هناك طريقة ضغط الزهور على شرائح زجاجية مغطاة بالشحوم الطبيعية لامتصاص الأريج أو الشذا، وهي نادرة الاستخدام الآن.

وتستخدم الزيوت العطرية، في العلاج أو الوقاية، بالاستنشاق، والتدليك وفي مياه الاستحمام، وكضمادات، وبنسبة قليلة ـ وتحت المراقبة الطبية الخبيرة ـ عن طريق الفم بجرعات قليلة محسوبة بدقة.  ونظريًا، تمتص الزيوت الأساسية (خلاصات الزيوت العطرية للنباتات) إما عن طريق مسام الجلد أو بالشم من الأنف.

ويعتقد أن جزيئات العطر الزيتية تمضي في مجرى الدم لتصل إلى الجهاز العصبي المركزي، فتحدث تأثيراتها الإيجابية تبعًا لأسس نفسية وفيزيقية.  فقد وجد الباحثون البريطانيون بمستشفى الملكة إليزابيث للأمراض النفسية أن مرضى الصرع قلت لديهم النوبات وخفت شدتها عندما تدربوا على الاسترخاء باستخدام الزيوت العطرية.

وأظهرت تجارب في مستشفى (ميدلسكس) بلندن أن مرضى القلب شعروا بتحسن وكانوا أهدأ عندما دلكوا بزيت زهر البرتقال المخفف (نيرولي)، أكثر مما لوحظ عليهم عند التدليك المقتصر على الزيت النباتي غير العطري، أي العادي. وثمة نتائج مشابهة سجلت مع استخدام الزيوت العطرية لجوزة الطيب والناردين (فاليريان) في تدليك مرضى السرطان بمستشفى (مارسدن) الملكي بلندن.  كما تأكد حدوث الاسترخاء العميق والشعور بالارتياح مع روائح عطرية معينة سواء في التدليك أو بالاستنشاق أو مع مياه الحمام، وهو ما يتطلب مزيدًا من الأبحاث لاستكشاف مناجم هذا الكنز الدوائي القديم الجديد.

وهناك طرق متعددة لاستخدام الزيوت العطرية، وباستثناء التطبيقات الذاتية البسيطة، فإن هذه الطرائق تتطلب اللجوء إلى معالج مؤهل ونحبذ دائمًا أن يكون طبيبًا أو يتم العلاج تحت الإشراف الطبي.

جلسات علاجية

في الجلسة الأولى يتعرف الطبيب المعالج على الحالة الصحية للمراجع، ونمط حياته اليومية، في الطعام والنوم والنشاط والوضع النفسي وحالة الجلد. ويتعرف من المريض عما إذا كان يبحث عن علاج لمشكلة صحية معينة، أم عن مقو عام، أم عن ارتياح نفسي. وسيرشح للمراجع الزيوت العطرية التي تناسب حالته وقد يشركه في الاختيار بين عدة بدائل.

ويستخدم الطبيب بالضرورة أنواعًا من الزيوت العطرية نقية وعالية الجودة لا يدخل في تركيبها أي كيمياويات صناعية، وتكون الخلاصات مخففة في زيوت نباتية كزيت اللوز أو زيت بذر العنب عند التدليك أو تكون مخفوقة مع مرهم أو دهان للاستخدام على الجلد.

ورغم أن التدليك مع ضغط الأصابع على النقاط الحيوية تستخدم فيه أحيانًا الزيوت العطرية، فإن الأكثر انتشارًا بين المعالجين هو التدليك (السويدي) الذي يهدف إلى تخليص الجسد من توتره وتحسين الدورة الدموية. كما أن التدليك ينبه الجهاز الليمفاوي الذي يساعد في التخلص من نفايات عملية الأيض المتراكمة داخل الجسم. وفي حالة الاستنشاق، فإن المعالج سيصف الزيت المطلوب ليستخدمه المراجع في منزله مع الإرشادات المناسبة للاستخدام.

استخدام ذاتي

يتم استخدام زيوت عطرية نقية وقراءة لائحة التعليمات بدقة، وهناك وسائل متعددة للاستخدام الذاتي، منها:

* الاستنشاق، يفيد لحالات الرشح واحتقان الحلق ونزلات البرد والسعال، لكن لا بد من الحذر في وجود تاريخ مرضي يشير إلى أزمات ربو.

ومن وسائل الاستنشاق وضع 2 – 3 نقاط من الزيت العطري في وعاء به ماء مغلي والانحناء على الوعاء مع عمل خيمة بمنشفة تشمل الرأس والوعاء معا للاستنشاق، مع غلق العينين أثناء ذلك. ومن الزيوت المستخدمة في ذلك زيت الكافور للحالات التنفسية. وهناك طريقة أخرى بوضع عدة نقاط على منشفة وتشممها، مع عدم الاستنشاق من القارورة مباشرة، إذ يكون تركيز الزيت مرتفعًا وتعرض الزيت العطري للهواء يضعف من فعاليته بعد ذلك.

* التبخير: وضع 2 ـ 3 نقاط من الزيت العطري في وعاء به قليل من الماء وتحت الوعاء توضع شمعة مشتعلة ليتبخر المزيج وينتشر مؤديًا إلى الاسترخاء أو التنشيط تبعًا للزيت العطري المستخدم ومن ذلك يستخدم زيت الخزامى للاسترخاء وزيت النعناع للتنشيط.

* الاستحمام: إضافة 6 قطرات من الزيت العطري إلى مياه الحمام الدافئة في «البانيو» ويسترخى فيها لمدة 10 دقائق. ومن أفضل زيوت الحمام العطرية زيت إبرة الراعي والخزامى والصندل وزيت زهور البرتقال.

استخدام طبي

تتم تحت إشراف طبي، ويتم خلالها شرب الزيوت العطرية النباتية داخليًا، وهي كالعلاج بالأعشاب لكنها أقوى أثرًا كونها مستقطرة بتركيز ومن ثم تتطلب الحرص وعدم التجاوز. وفي بعض الدول تستخدم زيوت عطرية نباتية مثل زيت القرفة وزيت الثوم وزيت الزنجبيل كبدائل للمضادات الحيوية، ويتم التشخيص اعتمادًا على التاريخ الطبي للمريض مع فحص شامل ثم توصف الزيوت العطرية للمريض لتناولها بالفم أو كتلبيسات أو تستنشق.

كما يمكن استخدام الزيوت العطرية كجزء من علاج الوجوه، يبدأ المعالج بتنظيف الوجه (بكمادات) مياه دافئة لفتح المسام. ثم يمر بضربات خفيفة بالراحتين على الجبهة في حركات دائرية، راحة فأخرى، بهدف الاسترخاء، وهو مما يمكن تكراره في أي مرحلة من مراحل العلاج.

ولإزالة التوتر عن الوجه يتم مسحه مع ضغط خفيف بالراحتين المتقاطعتين بدءًا من منتصف الجبهة مرورًا بالخدين ووصولاً إلى الذقن ثم الرجوع إلى نقطة البدء وتكرار الحركة عدة مرات. ولأن عضلات الفكين عادة ما تكون مشدودة، فيمكن إرخاؤها بالتدليك بسلاميات الأصابع المضمومة في حركات دائرية تتجه من الخد إلى مفاصل الفكين.

الولع بدهن العود

هناك ولع في بلاد الخليج العربية بعطور (دهن العود)، وهي خلاصة الزيت العطري لخشب شجر البخور الثمين، يتعطرون به ويبخرون بيوتهم وثيابهم فينشرون بذلك تقليدًا حضاريًا وإنسانيًا جميلاً.

وهناك فائدة عملية مدهشة وراء ذلك، فالجو الحار والرطب يشكل بيئة مشجعة لنمو وتكاثر البكتريا والفيروسات، ومع ما نعرفه عن الخواص المضادة للميكروبات في الزيوت العطرية، فإن شذا (دهن العود) الذي ينتشر بثبات واستمرار لكثافته الزيتية، إنما يشكل درعًا وقائيًا صحيًا مدهشًا يحمي الذات ويطهّر المكان.

محاذير

·     عدم الاستنشاق في وجود أزمات ربو أو نزيف بالأنف.

·     أن يكون المعالج ذا خبرة وكفاءة عند وجود صرع أو حمل أو ارتفاع بضغط الدم.

·     عدم ابتلاع أي زيوت عطرية إلا تحت إشراف طبي.

·     عدم تعريض العيون للزيت العطري، ولا يصبُّ الزيت العطري على الجلد مباشرة باستثناء زيت الخزامى على الحروق وزيت شجرة الشاي العطري على لسع الحشرات.

·     إبعاد الزيوت العطرية عن متناول الأطفال وعن النار.

تخفيف الزيوت

تستخدم خلاصات الزيوت العطرية النباتية من الخارج مخففة في زيوت حاملة كزيت اللوز الحلو وزيت دوار الشمس بمعدل 10 نقاط من الزيت العطري في 20 نقطة من الزيت الحامل. وفي حالات الحساسية وعند النساء الحوامل ـ تحت إشراف طبي ـ تستخدم الزيوت العطرية مخففة أكثر بمعدل خمس نقاط زيت عطري في 20 نقطة زيت حامل.

تابعنا

تابع الصحة والغذاء على مختلف منصات التواصل الاجتماعي

الصحة والغذاء إحدى بوابات دار   دار اليوم