الصحة والغذاء

الأقراص المستديرة العجيبة

خلال سائل البلازما تسبح جيوش من ملايين الخلايا لها أشكال مستديرة مبططة قليلاً من المركز (مقعرة) تسمى بخلايا أو كرات الدم الحمراء (Red Blood Cells) لأنها تحتوي على مادة حمراء تسمى هيموجلوبين (Hemoglobin).. وهذه المادة هي التي تكسب الدم لونه الأحمر المميز.

وخلايا الدم الحمراء ليست في الحقيقة خلايا نموذجية، لأنها لا تتمتع بخصائص الخلايا المألوفة، فهي لا تنقسم، ولا تحمل نواة، ولا تحمل باقي ملحقات الخلايا (Organelles) مثل الميتوكوندريا، حيث إنها تفقد النواة وهذه الملحقات خلال فترة نموها.. ولذا توصف أحيانًا بأنها كرات حمراء، وفي الحقيقة أن خلوها من النواة وملحقات الخلايا الأخرى يجعلها أكثر استعدادًا وقدرة على القيام بوظيفتها حيث يساعدها ذلك على توفير فراغ لحمل كميات كبيرة من الهيموجلوبين والذي هو عبارة عن جزيئات من البروتين تتحد من الأكسجين الذي يدخل أجسامنا مع الشهيق. ومن الطريف أن نعرف أن كل خلية واحدة من خلايا الدم الحمراء تكون قادرة على حمل حوالي 250 مليون جزيء من الهيموجلوبين.

كما أن شكل هذه الخلايا المبطط المقعر وخلوها من النواة وملحقات الخلايا الأخرى يجعلها قادرة على الانثناء والمرور بسلاسة خلال الأوعية الدموية الدقيقة أو الشعيرات الدموية.

عدد أفراد الجيش الأحمر:

ولكن ما هو عدد أفراد هذا الجيش الهائل من الخلايا الحمراء التي تسبح بعروقنا؟ إن أجسامنا تحتوي على حوالي 25 تريليون خلية حمراء!

ومن الشائع في الاختبارات المعملية حساب عدد الخلايا الحمراء في كل سنتيمتر مكعب واحد من الدم.. وفي الأحوال الطبيعية يكون العدد عند الرجال أكثر منه عند النساء، وذلك على النحو التالي:

رجال: يتراوح العدد ما بين 5- 5.5 مليون خلية حمراء.

نساء: يكون العدد في المتوسط حوالي 4.8 مليون خلية حمراء.

الأعداد غير الطبيعية للخلايا الحمراء:

انخفاض العدد: نقص عدد الخلايا الحمراء يدل على الافتقار الدموي أو الأنيميا، ولذلك أسباب عديدة، كما سيتضح.

زيادة العدد: وقد يعتقد البعض أن زيادة أعداد الخلايا الحمراء (Polycythemia) ظاهرة صحية.. لكنها ليست كذلك عادة، إذ يمكن أن ترتبط بأسباب مرضية وغير مرضية، مثل:

– إننا عندما نوجد في مناطق شاهقة الارتفاع عن سطح البحر تقل نسبة الأكسجين في الهواء.. ويعوض الجسم ذلك بزيادة عدد الخلايا الحمراء الناقلة للأكسجين إلى الأنسجة للتغلب على نقص الأكسجين مع الارتفاع (Altitude Hypoxia).

– وقد تحدث أيضًا هذه الزيادة بسبب نقص الأكسجين لأسباب مرضية مثل تليف الرئة (Pulmonary Fibrosis).

– كما أن الإفراط في التدخين (أكثر من علبة ونصف يوميًا) عادةً ما يؤدي لزيادة الخلايا الحمراء بسبب منافسة غاز أول أكسيد الكربون الناتج عن احتراق السجائر للأكسجين في شغل مكانه بالهيموجلوبين مما يقلل من نسبة الأكسجين في الدم (Anoxia).

– وقد تحدث أيضًا هذه الزيادة مع تناول العقاقير المخفضة لضغط الدم والمدرة للبول بسبب حالة الجفاف التي يتعرض لها الدم والجسم وهو ما يسمى بالزيادة الكاذبة (False Polycythemia).

فائدة الحجامة والدّود العالق:

وفي الماضي كانت تعالج مشكلة زيادة أعداد خلايا الدم (الخلايا الحمراء) بالدود العالق بالجلد والذي يقوم بمص الدم (Leeches).

ومع التطور أصبح من الممكن التخلص من الخلايا الزائدة (أو الدم الزائد) بعملية نقل الدم أو بعملية تفريغ وريد من كمية من الدم أو ما يسمى العلاج بإسالة الدم (Blood Letting) أو بشق الوريد (Phlebotomy).

ثم عاد بعد ذلك العلاج بالحجامة.. تلك الوسيلة العلاجية القديمة جدًا.. والتي تشابه الطرق السابقة في التخلص من كمية الدم، وتعتمد فكرة الحجامة على تنقية الدم من الخلايا الزائدة والمتهالكة والتالفة وما يشوب الدم من شوائب وأخلاط مختلفة والتي تميل للتجمع والتراكم بمواضع معينة والتي يجرى بها الحجامة.. وربما يفسر ذلك سبب الارتياح الذي يظهر على بعض المرضى بعد عمل الحجامة. ولذلك فإن الحجامة قد تكون مفيدة لبعض الحالات بشرط أن تجري بمواضع صحيحة وبخبرة طبية.. ولا يجوز أبدًا أن يتدخل غير الأطباء في القيام بهذا النوع من المعالجة وإلا صارت وسيلة للأذى وليس للنفع.

الوظيفة الأساسية للجيش الأحمر:

إن وجود معدل طبيعي للخلايا ضرورة أساسية للاحتفاظ بالصحة والحيوية.

إن هذه الخلايا الحمراء تقوم بوظيفة غاية في الأهمية حيث تحمل الأكسجين الذي يصل رئتينا أثناء الشهيق من خلال اتحاده مع الهيموجلوبين لتوزعه على كل خلايا الجسم.. والتي تستخدمه لحرق وتمثيل الغذاء للحصول على الطاقة.. وهذه الطاقة هي التي تجعلنا قادرين على الحركة، والمشي، والتفكير، والقيام بمختلف أنشطتنا، بل إنها تدير كذلك وظائفنا الحيوية وكل التفاعلات الكيميائية التي تجري بأجسامنا.. ولذا فإنه عندما ينخفض عدد خلايا الدم الحمراء نشكو من التعب السريع، والنهجان، وعدم القدرة على تحمل المجهود.

وبعدما تقوم الخلايا بحرق وتمثيل الغذاء يتولد غاز ثاني أكسيد الكربون الذي تحمله خلايا الدم الحمراء في الاتجاه العكسي إلى الرئتين للتخلص منه من خلال هواء الزفير.. ولولا هذه الوظيفة لتسممت أجسامنا بسبب تراكم هذا الغاز.

ما تركيب الهيموجلوبين؟

هذا الهيموجلوبين الذي يحمل الأكسجين ويوزعه على خلايا أجسامنا عبارة عن صبغ أحمر معقد التركيب يكون من حديد أو جزء محتو على حديد (Heme) وجزء بروتيني من الجلوبيولين (Globulin).. ولذلك يسمى هيموجلوبين (Hemoglobin).

فيحتوي كل جزيء من جزيئاته على أربع ذرات حديد.. وهذه تتحد مع الأكسجين في الرئتين لتنقله إلى الخلايا.

أما الجلوبيولين فيكون من أربع سلاسل من البوليببتيدات (Polypeptide)، زوج منها يسمى ألفا.. وزوج يسمى بيتا.

لماذا يوصف تناول الحديد لفقر الدم؟

يتضح من تركيب الهيموجلوبين أهمية توافر عنصر الحديد بالجسم.. ففي حالة نقص الحديد يقل تكوين الهيموجلوبين ويصبح لون الدم باهتًا. ولذا يوصف تناول الأغذية الغنية بالحديد وتناول مستحضرات الحديد لتقوية الدم.

كما يوصف أيضًا لنفس السبب زيادة الاهتمام بتناول البروتينات لأنها تدخل أيضًا في تركيب الجزء الآخر البروتيني للهيموجلوبين.

النسبة الطبيعية للهيموجلوبين:

وبما أن فائدة كرات الدم الحمراء تتوقف على مادة الهيموجلوبين الموجودة بها فإن نقص هذه الكمية يعكس أيضًا وجود حالة من الافتقار الدموي أو الأنيميا.

وكما يختلف عدد كرات الدم الحمراء ما بين الذكور والإناث، فإن كمية الهيموجلوبين تختلف كذلك باختلاف الجنس، فتكون على النحو التالي بالنسبة لكل سنتميتر مكعب واحد من الدم.

في الرجال: تتراوح ما بين 13.5-18 جرامًا (90-120٪).

في النساء: 11.5-16 جرامًا (75-95٪).

(لاحظ أن نسبة الهيموجلوبين قد تتعدى 100٪ وخاصةً في دول العالم الأول بسبب توافر المواد الغذائية الأساسية).

أنواع الهيموجلوبين:

نحن نولد بمادة هيموجلوبين غير ناضجة.. وهو الهيموجلوبين الذي تكوّن أثناء فترة النمو الجنيني.. ولذا يسمى هذا النوع بالهيموجلوبين الجنيني (هيموجلوبين F) ثم يتحول هذا النوع تدريجيًا إلى نوع ناضج (هيموجلوبين A).

ولذلك لو فحصنا وحددنا أنواع الهيموجلوبين عند شخص بالغ لوجدنا أن النوع السائد يكون من الهيموجلوبين الناضج.. بينما تكون هناك عادة نسبة طفيفة لا تزال باقية من الهيموجلوبين الجنيني غير الناضج.. بالإضافة إلى نسبة طفيفة أخرى من الهيموجلوبين الناضج تسمى (هيموجلوبين A2). فتكون الصورة على النحو التالي:

– هيموجلوبين A حوالي 97.5٪.

– هيموجلوبين A2 حوالي 2٪.

– هيموجلوبين F حوالي 1.2٪.

رحلة حياة خلايا الدم الحمراء:

التكوين: تتكون خلايا الدم الحمراء في نخاع العظم من الخلايا الجذعية (Stem Cells).. وأثناء نموها تفقد نواتها وملحقات الخلايا الأخرى.

العمر الافراضي: وتعيش الخلايا الحمراء في الدم لفترة تصل إلى 120 يومًا كحد أقصى.. وتقطع خلال هذه الفترة العمرية مسافة حوالي 700 ميل داخل الأوعية الدموية متنقلة من جزء لآخر من جسمنا.

وهذا المجهود الشاق أو هذه الرحلة الطويلة التي تقوم بها الخلايا الحمراء تجعلها تتعرض تدريجيًا للتلف والهلاك والإصابات المتكررة التي تلحق بجدارها بسبب الارتطام والاحتكاك بالجزيئات الأخرى (Molecular Damage).

عملية التكسير وإعادة التدوير:

وبعدما تهلك الخلايا الحمراء وتشيخ وتصير غير قادرة على القيام بوظيفتها بكفاءة تلتقطها خلايا خاصة (Macrophages) بالكبد والطحال وتقوم بالتهامها وتكسيرها.

ومن عجائب جسمنا أن الخلايا الحمراء العجوز الهالكة تمر بعملية إعادة تدوير (Recycling) كالتي نقوم بها بعد جمع المخلفات (القمامة) للاستفادة بما قد ينفع الجسم من مواد متخلفة عن عملية تكسير الخلايا الحمراء.

ومهمة إعادة التدوير هذه يقوم بها الكبد، وذلك على النحو التالي:

– يقوم الكبد بتكسير البروتين الموجود بالخلايا الحمراء (الجلوبيولين) إلى أحماض أمينية لاستخدامها في تصنيع نوع جديد من البروتينات.

– أما ذرات الحديد (Heme) فلا يهدرها الكبد، وإنما يستخدمها في إنتاج جزء جديد يشتمل على الحديد (Heme) لاستخدامه في عمل خلايا حمراء جديدة.

– أما الأجزاء المتبقية المحتوية على الحديد.. أي الهيم (Heme) فإن جزيئاتها تتحلل في الكبد وينتج من ذلك مادة صفراء تسمى بيليروبين (Bilirubin) وهذا البيليروبين يفرزه الكبد في الأمعاء الرفيعة مع العصارة الصفراوية (Bile).. وعندما يصل للأمعاء تحوله البكتريا الموجودة بها إلى صبغ أصفر من نوع أخر يسمى يوروبيلينوجين (Urobilinogen).. وبعضه يعاد امتصاصه للدم ثم يستخلص من الدم بالكلية ليخرج مع البول وهو الذي يعطي البول لونه الأصفر الفاتح.

أما الجزء الذي يمر خلال الأمعاء الغليظة ليخرج مع البراز فتتفاعل معه البكتيريا مرة أخرى وتحوله إلى صبغ بني اللون وهو الذي يعطي البراز لونه المميز.

لغز الإصابة بالصفراء:

والآن دعنا نفترض أن الكبد في حالة مرضية تجعله غير قادر على التعامل مع صبغ البيليروبين الأصفر الناتج عن تحلل الخلايا الحمراء (Heme).. كما في حالة وجود التهاب فيروسي وبائي شديد أو وجود تليف بالكبد، فما الذي يحدث في هذه الحالة؟

إن هذا البيليروبين سوف يتراكم ويمتص إلى تيار الدم.. وبسبب لونه الأصفر فإنه يصبغ الجلد والعينين بلون أصفر.. وفي هذه يحدث ما يسمى بالإصابة بالصفراء (Jaundice) والتي تسمى بالصفراء التكسرية (Hemolytic Jaundice) أي الناتجة عن تكسير الخلايا الحمراء حيث إن هناك أسبابًا أخرى للإصابة بالصفراء.

د. أيمن الحسيني – استشاري الأمراض الباطنية

تابعنا

تابع الصحة والغذاء على مختلف منصات التواصل الاجتماعي

الصحة والغذاء إحدى بوابات دار   دار اليوم