الصحة والغذاء

جراد على موائد الشعوب. نأكله ام نقتله؟

يشعر كثير من الناس بالضيق والاشمئزاز إذا اقتربت منه إحدى الحشرات.. لكن علماء التغذية عقدوا العزم على ترويض مشاعر الناس إزاء هذه المخلوقات لا لكي تتقبل وجودها في البيئة فحسب، بل لأجل أن يتقبلوا وجودها على موائدهم أيضًا.

أغذية الصحة والعافية

فمنذ عدة سنوات، بدأت بعض شركات تصنيع الأغذية الغربية في الترويج لمنتجات مبتكرة من المعلبات الغذائية تقول عنها «أنها أغذية الصحة والعافية». والمفاجأة أن هذه المنتجات ليست سوى جرادات محفوظة تنتمي إلى رتبة الحشرات مستقيمة الأجنحة Orthoptera التي تضم أنواعًا عديدة من الجراد Locusts والنطاطات ونحوها.

وإذا قدر لك أن تزورسوبر ماركت  في أقصى الغرب من الولايات المتحدة فسوف يلفت نظرك عبوات رائعة لشيكولاته الجراد وأنماط متعددة لمعلبات النطاطات المغلفة بالشيكولاتة معروضة على الرفوف. وفي أقصى شرق تايلاند واليابان، تلقى المنتجات المصنعة من معلبات الجراد المحفوظ إقبالًا منقطع النظير بين جموع الآكلين.

الوجه والوجه الآخر

حتى وقت قريب، كانت الأوساط العلمية تنظر إلى المنادين بمكافحة الجراد بأكله لا بقتله على أنهم خياليون. وأن النموذج المثالي للتعامل مع «آفة الجراد» هو القضاء عليها بأقسى أنواع المبيدات التي تنثر بالطائرات. ويتصاعد هجومهم على تلكم الآفة حين يتحدثون باستفاضة عن أضرارها في كافة أنحاء العالم. لكن هذه الحوادث المحزنة لا تعنى أن الجراد شر كله، إذ إننا حين نمعن النظر في الوجه الآخر للجراد نفاجأ بصديق مخلص لكل من البيئة والإنسان.

ومن ذلك ما اكتشفه فريق بحثي برئاسة عالم الحشرات «ميلفين داير» بجامعة «جورجيا» من خاصية فريدة للجراد لا نظير لها بين الأحياء. فقد دأب الجراد وهو يلتهم بعض أوراق النبات على منح غيرها التي يلامسها دون أن يأكلها قدرًا من لعابه. وقد عثر هؤلاء الباحثين في لعاب الجراد على جزئيات بروتينية (ببتيدات) نادرة، تخصصت في مضاعفة قدرة النبات على الإفادة مما لديه من الأكسين Auxin. وهو هرمون نباتي طبيعي يصنع في منطقة انقسام الخلايا في الجذور والسيقان ثم ينتقل إلى أماكن استطالة الخلايا بهما.

وقد أجرى هؤلاء الباحثين تجربة على نباتات في طور النمو، حيث نثروا عليها قدرًا من الأكسين، فلاحظوا تضاعف نموها سريعًا بدرجة ملحوظة. ولكن حين عمدوا إلى إضافة الجزيئات البروتينية المأخوذة من لعاب الجراد  تضاعف النمو مئات المرات أكثر مما كان لدى نثر الأكسين بمفرده على النباتات.

فماذا نستخلص من هذا؟

الحقيقة أن الجراد وهو يلتهم بعض أوراق النبات فإنه يفرز على سواها من الأوراق قدرًا من الجزيئات البروتينية التي تستحثها على مضاعفة النمو مرات كثيرة ومرات. أي أن الجراد وإن كان يأخذ فهو يعطى بأكثر مما أخذ.

وهناك وجه آخر يتمثل فيما أوتي من قدرة جبارة على تحويل ما يأخذ من نبات إلى بروتينات حيوانية، على نحو يفوق خمسة أضعاف ما يمكن أن تصنعه البقرة بالنبات. فهلا نعيد النظر فيما تمثله لنا «أسراب الجراد».

ويذكر علماء الحشرات أن الجراد يتحرك باستمرار في أسراب عظيمة. وقد تم رصد سربًا مساحته 400 ميل مربع، يضم حوالي 40000 مليون جرادة، بوزن لا يقل عن 160 ألف طن. فهذا سرب يكون نذير شؤم، إن سادت «النظرة المتعجلة الضيقة». أما إن كانت الأخرى  فإن كل الخير في أسراب الجراد. فعوضًا عن إبادة هذه الأعداد الغفيرة بالمبيدات، نفكر في ابتكار وسائل جديدة لاصطيادها ثم إعدادها للناس كطعام. وهنا نضرب عصفورين  بحجر واحد: فمن جهة تقل كثافة الجراد، ويكون ذلك في صالح النباتات. فالجرادات المطهية أو المحفوظة بالمعلبات أو المعروضة على رفوف المحلات ليس لها أي ضرر على المزروعات. ومن جهة أخرى نكون قد وفرنا لشعوبنا موردًا جديدًا يضاف إلى مصادر اللحوم وإلى الموارد الغذائية البروتينية.

حول العالم

عندما نلقي نظرة أعمق إلى الشرق البعيد ونقلب في أسفار الحكمة، نجد الصينيين القدامى والمحدثين من أكثر شعوب العالم معرفة بفوائد لحم الجراد وقيمته كغذاء لصحة الإنسان.

ففي كل سنة يستقبل الصينيون أسراب الجراد وهم يمنون أنفسهم بأشهى الوجبات، ولا يقل حب الناس للجراد في تايلاند عن جيرانهم من الصينيين.

ومنذ عام 1983، يتم إطلاق حملات قومية تستهدف صيد وجمع الجراد في سائر أنحاء تايلاند. ويجمع القرويون أطنان من الجراد يقومون بإعدادها على هيئة منتجات غذائية مقلية يستهلك منها ما يستهلك، ويصدر منها إلى الخارج ما يفيض.

وفي الوقت نفسه تبنى المعهد التايلاندي للأبحاث الزراعية منذ سنوات مشروعًا رائدًا لتصنيع وتعليب الجراد. وتلقى هذه المنتجات إقبالًا متزايدًا من التايلانديين ومن شعوب أخرى مجاورة كاليابانيين.

وفي كوريا الجنوبية تقبل طوائف الشعب بنهم على وجبات لحم الجراد. وحين لاحظوا في الثمانينيات من القرن الماضي أن المبيدات الحشرية كادت تقضى على جراد الأرز المحبوب.. قرر المزارعون التوقف عن استخدام المبيدات. فكان أن عاد الجراد يتكاثر من جديد، فزادت أرباح المزارعين من بيع الجراد، وعاد الناس يتذوقون طعم أطباقه ويطلبون المزيد. وحين نولي نظرة إلى عادات الشعب الهندي، نجد أن الكثيرين اعتادوا منذ وقت طويل على أكل الجراد بعد طهيه على وجوه متعددة. فقد تقلى أرجله وبقية جسده كل على حدة بعد رشها بالفلفل والملح أو تطحن وتخبز مثل الكيك أو تسلق في المرق.

وهناك شعوب آسيوية أخرى مثل باكستان وأفغانستان وإيران تقبل على أكل الجراد، ويباع لديهم في محلات خاصة. وهم يحبونه مقليًا أو مطبوخًا بالحليب، أو مشويًا مملحًا بعد معالجته بالزبد.

وإلى الجزيرة العربية، حيث درج بعض السكان على رصيد الجراد الصحراوي في المواسم التي يكثر فيها. حيث يأكلونه محمصًا أو مجففًا في الشمس. ومنهم من يشويه، وبعضهم يبقيه في ماء مملح يغلي  زمنًا إلى أن يطيب وينضج ثم يقشر ويؤكل لحمه الطري. أما أهل الكويت، فقد عرفوا الجراد كطعام منذ القدم، واستطابوا طعمه مقليًا ومشويًا ومغليًا، وكان يجفف ويؤكل مع التمر ويسمى سويقة .

فإذا انتقلنا إلى شعوب القارة الإفريقية، نجد أن الجراد يعتبر مصدرًا مهمًا للبروتين، خاصة في البلاد التي تقع ضمن نطاق حزام انتشار الجراد مثل الصومال وأثيوبيا وأريتريا وتشاد. وقد اعتاد الموريون سكان إفريقيا على غلي الجراد بكامله لمدة نصف ساعة، مضافًا إليه الملح والبهارات ثم يقلى بالزبد.

وفي دول المغرب العربي يطبخ الجراد الكبير بعد إزالة الرأس والأجنحة والأرجل، ثم يتبل بالبهارات والبقدونس المفروم ويضاف الخل أثناء الطهو ثم يقلى بالزيت.

وفي السودان يوجد للجراد سوق رائجة يقدم للآكلين بأشكال عدة فمنه ما يؤكل جافًا، أو بعد قليه في الزيت، أو بعد سلقه في الماء. ويعلق أحد رجال الأعمال السودانيين على ذلك بقوله: إن المواطنين اصطادوا الجراد إنقاذًا لمحاصيلهم. ولكن حين جربوا طهيه وأكله، استطابوا طعمه وزاد الطلب عليه من الكثيرين، حتى إننا لم نعد نلاحق طلبات الراغبين.

القيمة الغذائية

لقد توصل محللو الأغذية إلى أن الجراد يحتوي على قدر جيد من البروتين يفوق 22%. وبالتالي فإن وجبة متوسطة من الجراد تزود الإنسان بنحو 10% مما يحتاجه من البروتين طوال اليوم.

وقد عنى باحثو التغذية بتقويم جودة بروتين الجراد موازنة بغيره من صنوف البروتين. فكشفت البحوث عن تفوق بروتين الحليب على كل من بروتين الجراد وبروتين اللحم. ولكن بروتين الجراد كان هو الأفضل مقارنة ببروتين اللحم الأحمر.

وهناك جانب آخر مهم يزيد من مكانة بروتين الجراد، يتمثل في محتوياته من الأحماض الأمينية الأساسية، وهي التي يجب أخذها في الطعام حيث لا يتم تخليقها جسم الإنسان. أظهرت التحليلات وفرة أحماض الليسين، والأرجينين، والهستيدين، والفالين، والثيرونين والفنيل آلانين، والتربتوفان، والليوسين والأيزوليوسين بتركيزات تساوي أو تفوق ما حددته مقررات منظمة الأغذية والزراعة الدولية.

وبالتالي يمكن القول أن بروتين الجراد يمكن أن يغطي الاحتياجات اليومية لكافة الأحماض الأمينية الأساسية التي يحتاجها الإنسان، فيما عدا الحامض الكبريتي (ميثونين).

أما دهنيات الجراد فتصل إلى حوالي 12% من مكونات اللحم، وهي من نوعية جيدة تمتاز بوفرة ما لديها من أحماض دهنية غير مشبعة مفيدة صحيًا. ففي الدهنيات قدر حسن من دهون أوميجا -9، المعروف بحامض الأولييك، وكذا المكون الأساسي لعائلة دهون أوميجا -3، المعروف بحامض ألفا لينولينيك. ولذلك فإن لحم الجراد يعتبر من أكثر أنواع اللحوم توافقًا وحاجات بعض المرضى الغذائية.

وإضافة إلى الدهون والبروتين، يحتوي لحم الجراد على بعض المعادن المهمة مثل الحديد والزنك والبوتاسيوم والمغنسيوم والكالسيوم والفسفور، وكذا بعض الفيتامينات، مثل فيتامين (أ) وفيتامين (د).

جراد من النباتات

ورغم أن الناس لم يتذوقوا جميعهم لحم الجراد، إلا أن حقيقة تغذية الجراد على النباتات النظيفة الخضراء (لا على الجيف أو لحوم الحيوانات أو دماء الإنسان والحيوان)، جعلت الناس تطمئن إلى طيب منبته، وتوقن برفعة قيمته.

وقد أظهرت التجارب أن الجراد أوتي قدرة لا تبارى على معالجة واستخلاص العناصر الغذائية المفيدة من شتى أجزاء النبات كالأوراق والأزهار والثمار والبراعم ولحاء الأشجار.

وفي سبيل وصول الجرادات إلى كنوز المغذيات فإنها تعمد إلى تمزيق الأغلفة ميكانيكيًا بفعل حركات فكها القوية وقضمات الأفواه، وبهذا تتكشف المواد القابلة للهضم التي بداخل الخلايا، ويسهل وصول الإنزيمات الهاضمة إليها، ويتيسر هضمها والتغذية عليها فتزداد نموًا، وتتضاعف الأوزان.

وتزن الجرادة الواحدة نحو جرامين في أسابيع فقسها الأولى. وهى تستطيع أن تأكل في كل يوم قدر وزنها من النباتات. وهي تزداد وزنًا شيئًا فشيئًا حتى يبلغ من 3-5 جرامات. وكلما ازدادت وزنًا تضاعف ما تأكل من أعشاب نظيفة ونباتات.

والثابت علميًا أن نوع الغذاء الذي يتغذى به الحيوان هو المقياس الذي يحدد قابلية لحمه لتغذية الإنسان. ولأن التغذية النباتية هي أطيب ما يتغذى به الحيوان، فقد صار لحم الجراد من أطيب ما يتغذى به الإنسان، لاسيما في نطاق الرقعة الواسعة التي تشهد مواسم تكاثر الجراد أو هجرته. وهي تضم حوالي 64 دولة وإقليمًا، تتركز في قارتي إفريقيا وآسيا، موزعة على ثلاث مناطق رئيسية، هي:

1- منطقة تشهد أحداث التكاثر الصيفي، وتشمل بلدانًا إفريقية مثل (السنغال ومالي وموريتانيا والنيجر ونيجيريا وإثيوبيا وتشاد والسودان). ومن الدول الآسيوية (اليمن والهند وباكستان).

2- منطقة التكاثر الشتوي، وتضم من إفريقية الصومال

استخدم الجراد كغذاء للإنسان منذ زمن بعيد. وقد عده المسلمون منذ العصر الإسلامي الأول هبة من الله عز وجل.

وأفردت كتب الفقه فصولًا عن أكل الجراد، وفيه نقرأ عن إجماع الفقهاء على جواز أكله وعلى وجوه كثيرة، اتباعًا لأحاديث نبوية شريفة تحبذ أكله، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان، السمك والجراد والكبد والطحال» (رواه أحمد وابن ماجه)، وكذلك الحديث الذي رواه الجماعة إلا ابن ماجه، عن عبدالله بن أبي أوفى، القائل «غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل معه الجراد».

  الدكتور/ فوزي عبدالقادر

قسم علوم وتكنولوجيا الأغذية – كلية الزراعة

تابعنا

تابع الصحة والغذاء على مختلف منصات التواصل الاجتماعي

الصحة والغذاء إحدى بوابات دار   دار اليوم