رغم أن عمر المثلوثة في المملكة قصير ولا يقارن بغيرها من الأكلات الشعبية، لكنها تنتشر بشكل غير عادي في مختلف أنحاء المملكة، لدرجة أنه قلما نجد شارعًا يخلو من محل مكتوب على واجهته بالفنط العريض (مثلوثة)…
كنت أتجول في أحد شوارع الرياض، وبعد فترة شعرت أن الجوع قد غالبني.. فكرت: إلى أي المطاعم أتوجه، وما الطبق الذي سآكل؟..
بعد فترة من البحث عن مطعم مناسب، شعرت بحيرة من كثرة المطاعم والمطابخ التي تقدم الأكلات الشعبية السعودية بداية من الرز بأنواعه مرورًا بالدجاج واللحم المندي والمظبي وليس انتهاءًا بالحنيذ والمضغوط..
ورغم كثرة عدد الأكلات إلا أنني وجدت أن المثلوثة تحتل مكانة بارزة بينها فتساءلت في نفسي: لماذا المثلوثة، ولم سميت بهذا الاسم، وما السبب الذي جعل السعوديين والأجانب، والعائلات والشباب، يتوافدون على مطاعم المثلوثة بهذه الكثافة؟
كنت وقتها في أحد أحياء شمال الرياض، فقررت الوقوف عند أول مطعم يقدم المثلوثة..
لمحت لوحة لمطعم كبير له فروع عدة في أنحاء مختلفة من الرياض، حاولت الوقوف لكن زحمة السيارات أمام المطعم لم تجعل ذلك بالأمر الهين، فأوقفت السيارة بمكان بعيد ثم دخلت المطعم، وعندها استوقفني شخص يقف خلف طاولة وضع عليها دلة قهوة وتمر وفناجين، وكتب على واجهتها «خذ فنجان وعلوم رجال».. سكب لي فنجانًا ساخنًا من القهوة فشربته، ثم سألت مدير الفرع، عن سبب تسمية المثلوثة بهذا الاسم، فأوضح أن ذلك يرجع إلى أنها تتكون من ثلاث طبقات، أولها القرصان، وهي أكلة سعودية تخبز عجينتها قبل تحميصها في المرق الذي يتكون من الخضراوات، ثم يتم تفتيت الخبز إلى قطع صغيرة ويقسم إلى أربعة أجزاء، يوضع الجزء الأول في القدر ويضاف إليه قليل من المرق، ثم يوضع الجزء الثاني ويضاف إليه قليل من المرق، وهكذا إلى أن ينتهي الخبز والمرق.
الجزء الثاني هو الجريش، ويطلق عليه المعلّق في بعض أنحاء المملكة، فكلمة جريش مشكلة من جرش أي تكسير، ويتم تكسير القمح، ويحضر مع البهارات، وهي أكلة تقليدية، وتحتوي على نسبة عالية من الماء، مما يقلل من تركيز العناصر الغذائية الأخرى.
الجزء الثالث هو الرز، ولعله لا يحتاج إلى شرح، ويتم وضع هذه المكونات تصاعديًا. أي يوضع القرصان في قاع الصحن ومن فوقه الجريش ويعلو الجريش طبقة الرز التي ترقد فوقه قطعة اللحم أو الدجاج، وبذلك تكون اكتملت المكونات النهائية للمثلوثة.
وعن السبب الذي يجعل الكثير يقبلون عليها يعتقد مدير الفرع أنه يعود للمادة الغذائية المكونة منها، فوجبة واحدة تتكون من نصف دجاجة ومكونات المثلوثة كفيلة لإشباع الكثيرين. وعادة ما يجتمع شخصان على دجاجة واحدة حول صحن المثلوثة، ويرى أن هناك أسباب أخرى كثيرة تبرر هذا الانتشار منها أنها تصلح لكل زمان ومكان، وحيث أن الشعب السعودي يعتمد كثيرًا على الولائم الكبيرة، فإن الطلب على المثلوثة في تزايد، وأما العائلات والشباب الذين يخرجون للتنزه فإنهم يطلبونها عند خروجهم للبر وأيضًا في الاستراحات وقبل ذلك وبعده في البيوت. أي إن الطلب على المثلوثة لا ينحصر في وقت معين دون باقي الأوقات، ولا موسم دون موسم، حيث يكثر الطلب عليها في الصيف والشتاء، وتطلب للغداء أو للعشاء، ويزداد الطلب عليها كثيرًا في شهر رمضان الكريم وقت السحور.
كما أن سعر هذه الوجبة لا يقارن بأسعار الوجبات الأخرى، فعادة ما يعادل سعر طبق المثلوثة لشخصين، سعر وجبة الشخص واحد في مطاعم الوجبات السريعة.
طهاة المثلوثة
قمت بجولة داخل المطبخ الذي يعد المثلوثة، شاهدت خلالها كيفية إعدادها، والطريقة الصحيحة لطبخها، مما أشعل الفضول في نفسي للسؤال عن أمهر طباخيها، فعرفت أنه رغم قصر عمر المثلوثة الذي لا يتعدى العشرين سنة، ولا يعرف أحد من ابتدعها، لكن الطباخين المهرة للمثلوثة أكثرهم من حضرموت في اليمن، وهذا فعلاً ما شاهدته في أغلب المطاعم الشعبية بالرياض.
بعد ذلك توجهت لإحدى جلسات الطلب الداخلي في المطعم، ووجدت شخصين في العشرينيات جالسين ينتظران طلبهما، فسألتهم عن المثلوثة وسر الإعجاب بها، فقال أحدهما وهو السيد عبد الله أنها طيبة المذاق ومشبعة، وأنه كثيرًا ما يأتي للمطعم بعد انصرافه من عمله ويتناول المثلوثة بعدها يغط في نوم عميق، وأخذ يتغزل بالمثلوثة وأكد لي أنها الطبق المفضل لديه.
أما «سعود» فقال أنه يؤيد رأي صاحبه، ويضيف أنه طالب في الجامعة وأن سعر وجبة المثلوثة لا يتعدى العشرين ريال للدجاجة الواحدة وهو في متناول الطلاب بخلاف الوجبات الأخرى.
وفي مكان آخر من المطعم، لاحظت شاب سعودي يركز على دلة القهوة وكيفية تحضيرها حتى تحوز على رضا الزبائن، وحوله ثلاثة أشخاص فضلوا شرب فنجان من القهوة قبل الغداء..
داخل المطعم سألت أحد العاملين عن مدى طلب الزبائن على هذه الوجبة، فأخبرني أن الطلب عليها يكاد يكون هو الأساسي لجميع الزبائن، وأنهم يقدمونها منذ سنوات طويلة تزيد عن الثمانية عشر عامًا.
سألت الطباخ عما إذا كان يجد تعبًا في طبخ المثلوثة فقال أنها طبخة صعبة فعلًا بسبب مكوناتها الكثيرة، ولكن ما إن تظهر هذه الوجبة بشكلها النهائي وتحوز على رضا الزبائن حتى أعرف أن تعبي في طبخها قد أثمر.
وسألت عن سبب إقبال الزبائن على المثلوثة فقال أنها مكونة من أصناف ليست غريبة على المجتمع السعودي، فالرز والجريش والقرصان كانت أكل أجدادهم في الماضي، إضافة إلى أنها وجبة مشبعة بعكس الوجبات الصغيرة الأخرى التي تكون غالية ولا تغني من جوع!