من المألوف في بعض الصيدليات الأوربية أن ترى خلف الواجهات نماذج لأقراص رقيقة وأساور من نحاس عليها إرشادات طبية مطبوعة وموثقة. وفي الشوارع نلمح رجالاً ونساء تلتف حول معاصمهم أساور النحاس.
وقد أصبح للعلاج بالنحاس اهتمام ملحوظ في معامل البحث العلمي. ففي إحدى الجامعات الكبرى بأوروبا الشرقية تأسس مع بداية ثمانينيات القرن الماضي قسم للمعالجة بالمعادن وعلى رأسها النحاس. وبالتحديد: استخدام شرائح النحاس الأحمر للعلاج على الجلد.. بالتدليك أو الملامسة أو الوخز أو التثبيت إلى غير ذلك من الطرق.
منذ القدم
عرف استخدام النحاس طبيًا في حضارتي مصر وسورية القديمتين، حيث كان يوصى بارتداء أساور النحاس للوقاية من لين العظام ومن الصرع. وفي الطب الصيني القديم كان يُشار إلى استخدام إبرة من النحاس للتنشيط والتحفيز. وكان الفلاسفة اليونانيون، خاصة الفيلسوف الطبيب «أنبادوقليس» يرتدي صندلاً من النحاس لعله هو الذي وقاه من وباء الكوليرا التي كان شائعًا معالجتها والوقاية منها بالنحاس. وكان أرسطو طاليس - بعد يوم عمل شاق – يذهب إلى النوم وفي راحته كرة من النحاس تمتص تعبه أو تبثه العافية.
وفي القرنين العاشر والحادي عشر كان الطبيب والفيلسوف المسلم «ابن سينا» واضع كتاب «القانون» ينصح بتناول مسحوق النحاس عند كسور العظام، وكان يضع رقائق النحاس على الجروح المتقيحة حتى تبرأ.
كل هذا التراث تم توارثه في ذاكرة الطب الشعبي، لهذا ظل القرويون والرعاة في أماكن عديدة من الأرض يعطون برادة النحاس لحيواناتهم المصابة بالكسور وللحيوانات التي تصاب بالإسهال بسب نقص النحاس.
وما زالت شعوب كثيرة في الشرق تضع (خلاخيل) النحاس وأساوره في أقدام وأيادي الأطفال لتساعدهم عند (التسنين).
وفي زماننا
بدأ الاهتمام بالنحاس في الطب المعاصر في أواخر عشرينيات القرن الماضي، ففي عام 1928 أثبت بحث علمي أن الجسم يحتاج إلى قليل من عنصر النحاس لتكوين كرات الدم الحمراء، حيث يرتبط التمثيل الغذائي للحديد بالتمثيل الغذائي للنحاس. وثبت كذلك أن النحاس هام لتكوين الإنزيمات اللازمة لنمو العظام.
كما يدخل النحاس في تركيب صبغة الميلاتين الملونة للجلد والشعر، وكذلك الحامض الريبونووي، والبروتين الداخل في تركيب كل خلية. وهذه الوظائف جميعها، وغيرها مما لم يكتشف بعد، تقوم على قدر ضئيل من النحاس يصل المطلوب منه للإنسان البالغ يوميًا ما بين 1.5 – 2 من المليجرامات ليحافظ على محتوى الجسم من النحاس وقدره 100 – 150 ملليجرامًا.
ويتركز النحاس بشكل أساسي في المخ والكبد.. ولعل هذا يشير إلى خطورة الدور الذي تقوم به هذه الكمية الضئيلة منه في الجسد الإنساني.
استخدام موضوعي
لقد أثبتت دراسات متعددة أن مجرد ملاصقة النحاس للجلد يولد تيارًا كهربيًا دقيقًا جدًا مثل التيار المتولد في الحد الفاصل عند تلامس وسطين مختلفين موصلين بالكهرباء. ثم تبين أن وضع النحاس على الجلد يعطي شحنة مقوية ومحفزة لأنه يعمل كقطب سالب (كاثود)، بينما الفضة مثلاً تعطي شحنة مهدئة لأنها تعمل كقطب موجب (آنود).
ويرجع تأثير النحاس إلى سهولة حركة إلكتروناته الحرة. وهذا ليس بغريب على المعدن الذي يطلقون عليه لقب «معدن الكهرباء الأعظم» لاتساع رقعة استخدامه في الأجهزة الكهربية والإلكترونية.
بعد ذلك تؤدي شحنة هذا التيار الدقيق المتولد على الجلد دور المثير للمستقبلات العصبية التي تنقل الرسالة الكهربية عبر الأعصاب والحبل الشوكي إلى المراكز العليا في المخ فيتكون الرد على الرسالة ويحدث تفاعل منعكسي في العضو أو المنطقة المرتبطة بالنقطة المثارة على الجلد، وتنبعث الطاقة الكامنة لرد المرض عن هذا العضو أو هذه المنطقة.
هذا التفسير للعلاج بالنحاس أكدته وصاحبته ظاهرة مثيرة، هي أنهم عندما كانوا يضعون الأقراص النحاسية على الجلد تحت أربطة تثبتها فوجئوا أحيانًا وبعد نزع الأربطة مع مضي بعض الوقت بأن الأقراص تحركت من مواضعها. وفسر البروفسور «روما شوف» الروسي «هجرة» هذه الأقراص بأنها تتم على حساب تباين التأثير للحقول الكهربية لمختلف مناطق الجسم. وعادة يتحرك القرص صوب الموضع الأكثر مرضًا ليعيد تعمير هذا الموضع بالكهرباء الاستاتيكية، ويمكن في هذه الحالة أن يقع القرص من تلقاء نفسه عن الجلد.
وهذا التفسير لكيفية عمل أقراص النحاس ينطبق أيضًا على عمل الأساور النحاسية المنتشرة عالميًا، أو الرقائق التي يستخدمها الفرنسيون، أو كريات اليابانيين المستخدمة في العلاج المسمى «تسوبو». كما ثبت أن الجلد لديه القدرة على امتصاص القليل من النحاس الموضوع عليه خاصة عندما يعرق.
اللجوء للمختص
ويبقى أن نؤكد على أن الأشكال المختلفة للنحاس، وكيفية تطهيره، والمواضع التي سيلصق بها على الجلد ينبغي أن يحددها مختص يعرف خريطة ما يسمى بالنقاط الحيوية ومناطق الانعكاس، لإحداث الأثر العلاجي المطلوب، وللمتابعة والتدخل عند الضرورة.
كما نحذر من عشوائية استخدام النحاس على إطلاقه لأن النحاس العلاجي له شروطه وهو ما ينبغي أن يخضع لرقابة السلطات الصحية.
ما الذي يعالجه النحاس؟
القائمة طويلة لما يمكن أن يعالجه هذا النحاس الموضعي، وتشمل: إجهاد العضلات وتقلصها، والصداع، والوهن العصبي، وآلام العضلات والأعصاب الطرفية المزمن، والتهاب جذور الأعصاب، والتهاب المفاصل الروماتيزمي، والتهاب بطانة الشرايين.
إضافة للدور الوقائي من التهابات الجهازين التنفسي والهضمي، ومع إمكان استخدام النحاس في شكل كريات أو أقراص رقيقة كبديل للوخز بالإبر، في الحالات التي لا تحتمل الوخز، فإن القائمة تطول.
محاذير العلاج بالنحاس
مع استطالة قائمة الأمراض التي يعالجها النحاس تجب الإشارة إلى المحاذير، لأن النتيجة لن تكون واحدة لكل الناس.
فهي إيجابية عندما يكون هناك احتياج لتأثير النحاس، ويمكن معرفة ذلك بإجراء اختبار بسيط تلصق فيه رقيقة من النحاس على الجلد وتترك من 6 – 8 ساعات على الموضع المريض ثم ترفع وينظر إلى الأثر الذي تتركه الرقيقة، فإذا كان بقعة داكنة فهذا يشير إلى إمكان العلاج بالنحاس.
وبشكل عام لا ينبغي إلصاق الأقراص أكثر من يومين على الجلد. أما الأساور فننصح بخلعها ليلاً حتى لا تسبب الأرق أو التوتر في بعض الحالات. ولا ينصح باستخدام العلاج بالنحاس الموضعي عمومًا لدى الذين تنخفض عندهم مستوى الشعور بالألم كثيرًا، فيجنحون إلى الأنين والتوجع بسهولة مع اضطراب ظاهر في قدرتهم على التعبير، لأن هؤلاء لن يزيدهم النحاس إلا توترًا.