الحديث عن غذاء الروح يعني أننا نتحدث عن الجانب الروحي والعقائدي في الإنسان والمرتبط بخالقه، فغذاء الروح أسمى من غذاء الجسد لأن فيه تقوية للصلة بالله – عز وجل – وزيادة الإيمان والإحسان في النفس.
مخلوق نوراني علوي
وإذا كان غذاء الجسد لا غنى عنه لصحة الجسد فإن غذاء الروح هو الأهم، فهو ليس من جنس غذاء البدن، بل إن غذاء البدن إذا زاد عن حده أفسد الروح وأمرضها، وأدخل عليها من الفساد ما يكون فيه هلاكها.
أي أن هناك تناسبًا عكسيًا بين غذاء الروح وغذاء الجسد، فعندما يشبع الجسد تضعف الروح وعندما تشبع الروح تقل حاجة الجسد للطعام، ولكن ما يحدث على أرض الواقع يوضح أن هناك من يشبعون بطونهم ويهملون غذاء أرواحهم وعقولهم فتداهمهم الأمراض والهموم نتيجة هذا الإهمال المتعمد لحاجة الروح للغذاء.
وقبل الاستطراد بالحديث عن غذاء الروح فمن حق القارئ العزيز أن يطرح سؤالاً عريضًا حال قراءة عنوان هذا المقال حول معنى غذاء الروح، وهل يختلف عن غذاء الجسد، ثم ما نوع ذلك الغذاء الذي يختص بالروح دون سواها؟
للإجابة على هذا السؤال لابد أن نضع تعريفًا ولو مبسطًا لمعنى الروح، وذلك كما ورد في كتاب الروح لابن القيم وكتاب أحكام القرآن لابن العربي، حيث ورد أن الروح هي:( جسم مخلوق نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم. وقد جعلها الله في الأجسام، فأحياها بها، وعلمها وأقدرها، وبنى عليها الصفات الشريفة، والأخلاق الكريمة).
رقي المشاعر وسعادة النفس
وإذا كان غذاء الجسد يتكون من قوائم طويلة من الأطعمة والمشروبات المختلفة الأشكال والألوان فإن غذاء الروح أيضًا يحتوي على قائمة قد تطول وقد تقصر بحسب نوعية الغذاء الذي يريد صاحب الروح تناوله.
فالصوم يأتي في مقدمة الأغذية المفضلة للروح، حيث يسمو بصاحبه للمراتب العليا، فترتقي المشاعر وتسعد النفس لأن الجسد يفضّل النزول إلى الأرض والاستمتاع بكل لذاتها لأنه منها، والروح تريد أن تسمو وتعلو إلى مركزها ولكلٍ منهما غذاؤه من منبعه.
فَالجسد يحتاج إلى الأكل والشرب والنوم ليعيش.. والروح تريد ما نزل من السماء من ذكر وقرآن وإيمان لكي تعيش.
فالشعور بالجوع والعطش والتعب إشارات لحاجة الجسد، أما الشعور بـالهـّم والاكتئاب والضيق والملل فهو دليل لغربة الروح وحاجتها للغذاء.
ولعل من نعم الله علينا كمسلمين أن جعل الله صوم رمضان هو الركن الرابع من أركان الإسلام، حيث إن شهر رمضان المبارك هو أعظم موسم لغذاء الروح، فالإمساك عن الأكل والشرب، يساعد على التفكر والتأمل، ويصون القلب عن وساوس الشيطان؛ لضيق مجاري الدم بقلة الأكل.
الصوم في حياة نبينا الكريم
لقد ثبت علميًا أن الصيام ظاهرة طبيعية يجب على الجسم ممارستها ليتمكن من أداء وظائفه الحيوية، فهو ضروري جدًا لصحة الإنسان كالأكـل والتنفس والحركة والنوم، فإذا كان الإنسان يعاني بل يمرض إذا حرم من النوم أو الطعام لفترات طويلة، فإنه كذلك لا بد أن يصاب بسوء في جسمه لو امتنع عن الصيام.
ثم لماذا كان نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – يتغير في رمضان، ويزداد في التقرب إلى الله وفعل الطاعات، ما الذي أحدثه الصوم فيه؟ وهل النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو الذي لم يخالط قلبه محبة غير الله يتأثر بالصيام إلى هذا الحد، فيحدث له هذا النشاط العجيب، غير المعتاد؟
لماذا كان الصوم من دون كل العبادات لله، وهو يجزي به؟
لماذا كان للصائمين باب يقال له الريان، لا يدخل منه أحد غيرهم؟
ولماذا لما قال أحد أصحاب رسول الله له: يا رسول الله مرني بعمل، قال: «عليك بالصوم؛ فإنه لا مثل له»؟
ولماذا كان الصوم جنة؟
ولماذا رائحة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؟
هل يعقل أن يكون كل ذلك فقط من أجل الإمساك عن المفطرات من الأكل والشرب والشهوة؟
بالتأكيد لا.. فهناك غذاء يحدثه الصوم في شهر رمضان، غذاء يخالف غذاء البدن، غذاء تحيا به الأرواح، وتصلح به الأمة، وتستقيم به الأحوال.
شهادة صحفي غير مسلم
وقد يكون من المناسب أن نقدم هذه الشهادة لصحفي غير مسلم يتحدث من خلالها عن أثر الصوم على نفسه، وما يشعر به من راحة كبيرة تؤكد أن غذاء الروح يجلب السعادة للإنسان.
يقول «توم برنز» من مدرسة كولومبيا للصحافة:
«عندما أصوم يختفي شوقي تمامًا إلى الطعام، ويشعر جسمي براحة كبيرة، وأشعر بانصراف ذاتي عن النزوات والعواطف السلبية كالحسد والغيرة وحب التسلط، كما تنصرف نفسي عن أمور علقت بها مثل الخوف والارتباك والشعور بالملل. كل هذا لا أجد له أثرًا مع الصيام، إنني أشعر بتجاوب رائع مع سائر الناس أثناء الصيام، ولعل كل ما قلته هو السبب الذي جعل المسلمين وكما رأيتهم في تركيا وسـوريا والقدس يحتفلون بصيامهم لمدة شهر في السنة احتفالاً جذابًا روحانيًا لم أجد له مثيلاً في أي مكان آخر في العالم».
ويبقى السؤال الحائر كم أعطينا من الاهتمام والجهد والمال من أجل غذاء الجسد وكم أعطينا من اهتمامنا لغذاء الروح؟
وإذا كان الصوم هو أكثر أغذية الروح أهمية، إلا أن هناك أيضًا قوائم وأغذية أخرى للروح سنتحدث عنها بإذن الله في مقالات قادمة، وكل عام وأنتم بخير.
د. فهد بن مصطفى الســحلي – دكتوراه الفلسفة بالمكتبات والمعلومات