لحاسة الشم دور جوهري في توجيه سلوك الإنسان تجاه ما يعرض له في الحياة من مواد كيميائية، وأيضًا في القيام بأعمال الحواس الأخرى، فقد تظن مثلاً أن اللسان هو أداتنا الوحيدة لتذوق الطعام، غير أن لحاسة الشم دورًا لا غنى عنه في ذلك، فاللسان يميز فقط 4 أنواع أساسية فقط من الطعوم، هي الحلو والمر والمالح والحامض، بينما يستطيع الأنف تمييز عدد أكبر من الروائح الأساسية والثانوية.
مذاق الأطعمة
معنى ذلك أن حكمنا على مذاق الطعام يرجع إلى تذوق اللسان له، وإلى ما يتلقاه الأنف من رائحة لذلك الطعام، ولهذا السبب لا يشعر الإنسان بطعم الغذاء عندما يصاب بوعكة تؤثر في أنفه، كالزكام مثلاً.
فتمييز الأنف للروائح أشمل وأعمق من تمييز اللسان للطعوم. كما أن ملمس الطعام وقوامه من العوامل المميزة للمذاق، فإذا جيء بطعام ذي مذاق مألوف ثم طحن أو تم تسييله لتعذر جدًا على المرء أن يميزه.
ويفسر بعض العلماء ضعف حاسة الشم نسبيًا عند الإنسان إلى نجاحه في أن يوفر لنفسه بيئة أكثر أمنًا ونظافة من البيئة التي يتحتم على الحيوان أن يحيا فيها، فالحيوان بغير حاسة الشم القوية لن يستطيع العثور على غذائه أو تحديد مكان فريسته، أو الإحساس باقتراب أعدائه الطبيعيين. أما الإنسان فقد أغنته مدنيته عن خوض مثل تلك المشاق، إذ وهبه الله تعالى بصرًا حادًا وسمعًا حادًا وذكاء فريدًا، وهي المقومات التي مكنت له في الأرض، ويسرت له إدارة حياته على نحو لا يتأثر كثيرًا بضعف حاسة الشم.
ولكن هناك من العلماء من يعتقد بإمكان تقوية حاسة الشم عن طريق التدريب، ومما يعضد ذلك الرأي ما يتناقله البعض حول ما يتمتع به ضعاف البصر من قوة غير عادية على التقاط الروائح، وذلك بسب تزايد اعتمادهم على حاسة الشم، فالمعروف أن غير المبصرين يعتمدون على السمع والشم بشكل كبير، ويقال إنهم يستطيعون بسهولة معرفة ما إذا كان هناك شخص يشاركهم الغرفة مثلا.
رائحة البشر
يقول العلماء إن هناك رائحة للبشر مع أن أنوف الغالبية منا تعجز عن إدراكها، وتصدر تلك الرائحة عما تفرزه الغدد الجلدية من مواد تصب على سطح الجلد، وهناك 3 طوائف من الغدد التي تساهم بإفرازاتها في تشكيل رائحة الإنسان، وهي الغدد العرقية وغدد الرائحة.
ونظرًا لتعدد الغدد فإن خلاصة الرائحة لجسم شخص بعينه هي مزيج متفرد من المواد التي تنتجها غدد الجلد، وهذه الرائحة تتأثر بعدة عوامل كالغذاء ومستوى اللياقة الصحية والحالة العاطفية والمزاجية، بالإضافة إلى الظروف البيئية المحيطة بالفرد، وأنواع البكتريا التي تأوي إلى جلده.
لكن هناك رائحة أساسية تميز كل فرد عن سواه مهما أسرف في استعمال العطور الاصطناعية، حتى إن تعبير «بصمة الرائحة» Odor fingerpint يرد في بعض المراجع العلمية كما لو كانت رائحة الشخص شيئًا مميزًا له كبصمات أصابعه. بل إن أجهزة الشرطة في بعض البلدان تجمع عينات من روائح الأشقياء ومعتادي الإجرام، وتحفظها في زجاجات خاصة، للرجوع إليها إذا دعت الضرورة.
لكن.. ما مدى أهمية تلك الروائح؟
لا شك أن لهذه الروائح دورًا أهم من مجرد تسهيل مهمة الشرطة في العثور على مجرم هارب. فقد كشفت أبحاث حديثة عن أثر تلك الروائح في حياة الإنسان، فقد وجد مثلاً أن الطفل الرضيع يرتبط بأمه – كما ترتبط الأم برضيعها – عن طريق الرائحة، ففي إحدى الدراسات وجد أن أغلب الأطفال «في عمر ستة أسابيع» يستطيعون تمييز روائح أمهاتهم، والتي تم استخلاصها من الأمهات بواسطة وسائد قطنية صغيرة ألصقت بأجسادهن لفترة معينة. وفي دراسة أخرى أجريت على أطفال أصغر سنًا «في عمر 8 – 10 أيام» وجد أن خمسة وعشرين طفلاً من اثنين وثلاثين يتجهون إلى رائحة أمهاتهم ويتجاهلون الروائح المستخلصة من نساء أخريات.
رسائل كيميائية
وقد أزاحت دراسات أخرى في هذا المجال بعض الغموض عن الرسائل الغامضة التي يتبادلها البشر دون إدراك واع لطبيعتها، فإذا هي بالفعل رسائل كيميائية.
تؤكد بعض الدراسات أن البشر يتبادلون رسائل كيميائية فيما بينهم، وقد أطلق العلماء على هذه الرسائل الكيماوية التي يتبادلها أبناء النوع الواحد اسم «فايرومونات» Pheromones، وهي كلمة مشتقة من اللاتينية وتعنى «التأثيرات المحمولة».
ففي تجربة للعالم الأمريكي G.Preti وزملائه في مركز بحوث الحواس الكيميائية في بنسلفانيا قام بجمع إفراز العضو الإبطي من بعض الرجال وأذابوه في مذيب معين، وبعد ذلك مرروا قطعة من القطن المبلل بهذا المحلول أسفل أنوف عدد من النساء ذوات الدورات الحيضية المفرطة في الطول أو المفرطة في القصر، وبعد تكرار ذلك الإجراء عدة مرات على فترات منتظمة، لم تمض ثلاثة أشهر حتى كانت كل أولئك النساء يحضن على دورات تبلغ 29 يومًا تقريبًا، وهى المدة المثلى بالفعل.
وهناك العديد من الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن بهذا الشأن، فهل ارتياحنا لشخص نلقاه لأول مرة مثلاً يمكن أن يكون راجعًا إلى نوع من الفيرومونات يصل إلى أنوفنا فيبعث فينا – دون أن ندري – حالة من الرضا والقبول؟ وهل يكتشف العلماء يومًا أن قوة التأثير التي يتمتع بها القادة المتميزون بالمهابة تعود إلى نوع من الفيرومونات التي تؤثر فيمن حولهم؟ وهل ما تولده العشرة من روابط عاطفية بين البشر يمكن أن يعزى – ولو جزئيًا – إلى الفيرومونات؟
الطريف أن بعض شركات العطور استغلت القدر المتاح من هذه المعلومات فأنتجت عطورًا تحتوي على مواد قريبة الشبه – تركيبيًا – من الفيرومونات البشرية، وروجت لها بزعم أنها تزيد الثقة بالنفس وتضفي على من يتعطر بها جاذبية خاصة وتجعله مقبولاً من الجنس الآخر.
لكننا – وبعيدًا عن هذه الدعاية – نقول إن الأسئلة السابقة ليست غريبة أبدًا على جو العلم، ففضول العلماء لا حد له، وقد يكشف العلم مستقبلاً عن إجابات لهذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة.