إلى أي مدى ستصل أحلام العلماء إلى عمق أسرار الخلية الحية؟.. ذلك الكائن الحي الدقيق جدًا الذي ينطوي على عالم كامل من الحياة والأسرار العجيبة، عند أي حد سيقف العلم عاجزًا عن التقدم فيه خطوات أخرى؟..
يبدو أن الإجابة عن هذه التساؤلات لن تكون سهلة. فمع التقدم التكنولوجي الذي جعل بالإمكان إجراء جراحة دقيقة في نواة الخلية، أو شق غلافها لزرع قطب كهربي أو جهاز استقبال غاية في الدقة، ينقل إلى الخارج تفاصيل ما يجري.
ومع هذا التقدم التكنولوجي المتصل، يصبح من الصعب وضع حد للأحلام، فحلم الأمس يتحول اليوم إلى حقيقة واقعة.
الخلية الكوكب
وعلماء الأحياء يرسمون صورة للخلية.. قد تكون شاعرية، لكنها دقيقة علميًا، وهم يشبهون الخلية بكوكب أو جسم سماوي من مادة جرى تخطيطها بإحكام، تدور حوله التوابع التي تعتبر مصانع متحركة، وهذه المصانع هي ما يطلق عليه اسم الريبوسومات. الكوكب الذي في المركز هو نواة الخلية، والمعلومات التي تصدرها النواة تنتقل إلى التوابع أو الريبوسومات عبر مادة حمضية يطلق عليها الرمز (ر ن أ).
وعندما بدأ العلماء في البحث عن وسيلة لتغيير الصفات الوراثية التي تحملها الخلية، كان عليهم أن يسلكوا أحد ثلاثة سبل: البحث عن طريقة لإعادة تخطيط البرنامج المحفوظ داخل النواة، والتي تصدر أوامرها وفقًا له.. أو أن ينصب التغيير على توابع النواة أو الريبوسومات.. أو الوصول إلى طريقة يمكن بها إحداث تغيير في تركيب الحامض «ر ن أ» الذي يحمل المعلومات من النواة إلى الريبوسومات، ومن ثم تغيير طبيعة المعلومات التي ينقلها.
– السبيل الأول: كيف يمكن أن نحدث تغييرًا في البرنامج المحفوظ داخل نواة الخلية؟
الإجابة ببساطة: نمحو البرنامج السابق تسجيله، ونسجل عليها برنامجًا جديدًا، بحيث تبدأ الخلية حياة جديدة بشكل كلي.. بالضبط كما نمحو شريط التسجيل ونعيد تسجيله.
قد تبدو الفكرة مستحيلة، إلا أن هذا الاحتمال يحظى بقدر من الاحترام والاهتمام بين العلماء. فالكثير من البحوث العلمية الحديثة تفيد إمكان اللجوء إلى هذا السبيل، لأن الرأي الغالب حاليًا يميل إلى اعتبار أن حامض النواة يتمتع بصفات مغناطيسية.
وهكذا يمكننا باستخدام أجهزة حساسة بدرجة كافية، أن نتمكن من إلغاء مغناطيسيته، ثم نعيد مغنطته بطريقة جديدة. وفي هذه الحالة سيكون بإمكاننا أن نغير من تركيب الخلايا السرطانية، ثم نغذيها ببرنامج جديد، يجعلها تعمل كخلايا عادية.
بالطبع، لن يصل الإنسان إلى عملية البرمجة الصناعية للخلية، إلا بعد أن يحوز حدًا أدنى من المعارف حول طبيعة الشفرة الوراثية، وأيضًا بعد أن نتوصل إلى صناعة الأجهزة المغناطيسية المناسبة التي تبلغ أقصى درجة من الحساسية. وإذا كان الطريق إلى ذلك يبدو شاقًا وطويلًا، فإن مجرد نجاح الإنسان في زرع قطب كهربائي دقيق جدًا داخل جسم الخلية، يعتبر خطوة مبشرة.
– السبيل الثاني: تغيير الخصائص الوراثية للخلية الحية، يبدو أقرب إلى التحقيق، هو حقن الخلية بمواد كيميائية تعمل على تغيير التركيب الكيميائي لحاملات العناصر الوراثية، ومن ثم تغيير الشفرة الوراثية. وقد تمت مثل هذه التجربة بنجاح على البكتيريا.
ولكن ما سر هذا الاهتمام المتزايد بتغيير الصفات الوراثية للخلية بالطرق المغناطيسية أو الكيميائية؟.. يعتقد العلماء أن تبديل التعليمات الصادرة إلى الريبوسومات داخل الخلية تمكن الإنسان من الوصول إلى أبعد النتائج وأغربها.
سيكون بإمكانه صنع بكتيريا تنتج مادة الأسبرين مثلًا، أو يستخلص المعادن النادرة من ماء البحر، أو حتى يحول معدنًا ما إلى معدن آخر، ساعتها يمكن أن نسخر الريبوسومات، أو المصانع العاملة داخل الخلية، في استنباط عناصر مركبات كيميائية لم يتوصل إليها العلم حتى الآن، نسخرها في صنع زيت البترول من الغازات أو السكر، والتقاط المواد الدهنية من الجو.. كل هذا في درجة حرارة عادية وتحت ضغط عادي، وفي ظل أكثر الظروف الإنتاجية اقتصادًا وتوفيرًا.
– السبيل الثالث: التأثير على حامض «ر ن أ» وهو في طريقه لنقل المعلومات من نواة الخلية إلى الريبوسومات، قد حظي بأقل اهتمام من العلماء. ولم تبدأ التجارب في هذا السبيل إلا منذ وقت قريب. والفرض السائد هنا هو سحب مادة «ر ن أ» من الخلية، وإخضاعها للتغيير المطلوب، ثم إعادة حقن الخلية بها.
وحتى نستطيع تصور الإعجاز العلمي المطلوب في العمليات التي نتكلم عنها، يجب أن نعرف بالضبط مدى دقة حجم العناصر التي يسعى العلم إلى إحداث التغيير فيها. فالريبوسوم، وهو المصنع المتحرك الذي يتلقى تعليماته من مادة «ر ن أ» يبلغ في طوله جزءًا من مائة جزء من الانجستروم (المليمتر= 10 أنجستروم)، أي أن طول الريبوسوم واحد على ألف من الملليمتر.. ومع هذا، فإن ذلك الكائن البالغ الدقة يقوم بعمل مصنع كامل. ومادة (ر ن أ) عبارة عن سلسلة من جزيئات 80 حمض أميني تقريبًا. وهي تنقل إلى الريبوسومات أوامر النواة بصنع أنواع معينة من الجزئيات البروتينية. ومن خلال عملها هذا تتحدد طبيعة الكائنات الحية، ويخرج الطفل يحمل صفات أبيه وأمه.. وعمل الريبوسومات معقد للغاية ودقيق للغاية، وأي خلل فيه يمكن أن يجعل شجرة الورد، تطرح قططًا بدلًا من الورود!
لقد أثبتت التجارب التي يقوم بها العالم بتورو تانا كامي بجامعة كاليفورنيا، أنه من الممكن عزل جزئيات البروتين عن الريبوسومات. أي أنه أثبت إمكان التعامل مع مادة «ر ن أ» وهي في طريقها من النواة إلى الريبوسومات. بالضبط كما تلتقي برسول موفد بخطاب من القاهرة إلى الإسكندرية مثلًا، فنأخذ منه الخطاب في طنطا، وتسلمه خطابًا بديلاً يحمل معلومات مختلفة، النتائج التي توصل إليها العالم تاناكامي تفتح الباب أمام العديد من الأحلام والتصورات..
سيصبح في الإمكان إنتاج مادة «ر ن أ» مضادة للسرطان، إنتاجها على نطاق واسع وبأقل التكاليف.. سيعني هذا الكشف إمكان حقن الجنين بمصل، أو بفيروس اصطناعي، بحيث يتمتع ذلك الجنين بعقل يفوق قدرة أكبر العقول البشرية. وعلماء معهد باستير يقولون إن الوصول إلى هذه النتائج ليس أمرًا مستحيلًا.. وإن السبيل إليه يقتضي المزيد من الجهد والمال والتطور التكنولوجي في فروع أخرى.
احتمالات مخيفة قد تستفز البعض ليقولوا بحسم «لن يجرؤ العلماء على فعل هذا». لكن تاريخ الإنسان كان حافلًا بضروب الجرأة، وليس هناك ما يشكك في أنه مازال على نفس القدر من الجرأة.
العقول الإلكترونية الحية
ننتقل إلى موضوع نقاشي آخر يدور حوله الجدل.. حلم آخر من الأحلام التي تشحذ جهد العلماء.. إنتاج عقول إلكترونية جديدة لا تعتمد على الإلكترونات، ولكن تحل محلها مادة «ر ن أ». ويعتبر هذا الحلم القمة في أحلام تطوير وسائل تخزين وتسجيل وتصنيف المعلومات. وإذا تحقق هذا، سيصبح في الإمكان وضع كمبيوتر على درجة عالية من التطور، له قدرة خرافية على حفظ المعلومات، في حقيبة يد صغيرة!
هذا العقل الصناعي الخطير، تحتل فيه الريبوسومات مكان البللورات الغالية المستخدمة حاليًا في العقول الإلكترونية.
فالجرام الواحد من مادة «ر ن أ» يحتوي على قدر من المعلومات يصل إلى بليون ضعف (ألف مليون) المعلومات التي يمكن أن يحفظها الجرام من مادة «الفيرايت» التي تستخدم في حفظ المعلومات بالعقول الإلكترونية الحديثة. مثل هذا العقل الإلكتروني الحي، من الضروري حمايته من الإصابة بأي عدوى!
وهذا في حد ذاته سيثير المزيد من المشاكل أمام العاملين في حقل العقول الإلكترونية. وعليهم أن يضمنوا التعقيم الكامل للحجرات التي يوضع فيها هذا العقل الإلكتروني الحي.. نفس التعقيم الذي تكون عليه حجرة العمليات.
ولكي يتحقق هذا الحلم، يجب أن نكون قد وصلنا إلى المستوى التكنولوجي الذي يسمح لنا بزرع أجهزة استقبال وإرسال داخل الريبوسوم (تذكر: طوله واحد على ألف من الملليمتر).. والإنجازات العجيبة في مجال إنتاج الأجهزة الشديدة الدقة والحساسية، كفيلة بتحقيق هذا الحلم.
برامج تلفزيونية على نواة الخلية!
يقول العلماء إن العقول الإلكترونية الحية، ليست هي الإمكانية الوحيدة التي سنستفيد بها من أجهزة التخزين البيولوجية للمعلومات. فهناك مثلًا مجال التليفزيون.. الحيز الضخم الذي تحتله أشرطة التسجيل التليفزيوني، يمكن أن نستغني عنه باستخدام وسائل التسجيل البيولوجي.
وهم يقولون إن الأمر يبدو بسيطًا من الناحية النظرية، البدء بإنشاء مزرعة بكتيرية، ثم استخدام القوة الطاردة المركزية لعزل عناصر ومكونات حاملات الخصائص الوراثية، مثل حامض النواة.. وبعد مسح المعلومات المسجلة يصير تسجيل البرامج التليفزيونية الجديدة عن طريق النبضات الإلكترونية، وهذا يسهل استرجاع هذه البرامج وعرضها عند الحاجة. وإذا توصل العلماء إلى حل المشاكل التكنيكية المتصلة بهذه العمليات، سنصل إلى وسيلة سهلة ورخيصة لتسجيل البرامج وحفظها.
وإذا كانت الفروض النظرية سهلة، فالتطبيق يصطدم بالكثير من العقبات الناتجة عن قصور المعارف العلمية عن الخلية الحية برغم كل الاكتشافات الأخيرة. غشاء الخلية مثلًا، الذي يضم كل ما تحتويه الخلية، أنفقت الملايين في محاولة إنتاجه اصطناعيًا، وأثناء هذه المحاولات اكتشف العلماء أن هذه الأغشية لا تتكون فقط من مادة، إنما تحوز بعض القوى التي لا نعرفها والتي تعمل كحاجز أو متراس يحمي الخلية مما حولها.
وسر حرص العلماء على صناعة مثل هذا الغشاء تعود إلى أن الوصول إلى هذا يفتح السبيل للعديد من الإمكانيات.. ساعتها سيصبح من السهل تحويل ماء البحار إلى مياه صالحة للشرب دون تكلفة تذكر، وتوليد طاقة كهربائية كبيرة بأقل التكاليف.
هذه الأحلام المدهشة، لن تتحقق إلا إذا عرفنا طبيعة القوى الغامضة التي تعمل عند غشاء الخلية. والفرض السائد حاليًا هو أن هذه القوى إما أن تكون في جوهرها كهرو- استاتيكية، أو أن تكون ذات طبيعة أموزية.
ونحن نعرف ما هي الكهرباء الاستاتيكية التي تتولد عن احتكاك بعض الأجسام، ونعرف خصائصها، لكننا لا نعلم الكثير عن القوى الأزموزية، وما نعرفه لا يتجاوز مظاهرها وتأثيراتها. فهذه القوى تعمل مضادة لقوانين الجاذبية الأرضية، وتساعد على صعود العصارات أعلى النبات، بل وترفع هذه العصارات في النباتات العالية إلى ارتفاعات لا يمكن تصديقها.