إنها شجرة الجمال الدائمة الاخضرار. والشجرة التي تفيض بعناصر الإثارة وبوفرة الخير والعطايا. ومنهم من وصفها «بكنز الغابة الذي لا يفنى» وآخرون اعتبروها «صيدلية القرية»، كما أطلق عليها غيرهم «شجرة الألف فائدة وفائدة»، بينما انبرى البعض إلى تأكيد ما ذهب إليه كل الحالمين، فاستحقت شجرة النيم ألقابها عن جدارة وبكل ثقة.
غابة من الأشجار
تستدعي كلمة «غابة» على الفور كلمة «شجرة»، والشجرة التي نقصد هي شجرة النيم Neem، وتعني في اللغة الهندية «شجرة الهند المجانية». إذ إن موطنها الأصلي يقع في غابات شبه القارة الهندية. وهي معمرة إذ يصل عمرها إلى 180 عامًا، وقد يمتد عمرها في الغابة إلى المئتين.
حين يتأملها العالم النباتي لا يسعه إلا الإعجاب بأشكالها الرائعة وخصائصها النباتية الباهرة. فهي سريعة النمو كثيفة الظل دائمة الاخضرار تنمو بكثافة، وتمثل في الغابة مظهرًا رئيسيًا للخضرة، أما ارتفاعها فيصل إلى 16 مترًا وأحيانًا يبلغ 25 مترًا، ويصل قطر مجموعها الخضري إلى عشرة أمتار. وتمتاز بجذع قاس صلب، بني داكن، يتراوح قطره بين 75 و150 سنتيمترًا.
على أن ما يعنينا هنا ليس جمال الشجرة الخارجي، بل روائع الكيميائيات الحيوية الفعالة، التي تنطوي عليها أجزاؤها وعطاياها المتجددة التي جعلت الناس يطلقون عليها «كنز الغابة الذي لا يفنى».
ولكي يهتدي المحللون إلى الكيميائيات الفعالة فقد قاموا بأخذ عينات من كافة أجزاء النبات، ثم شرعوا في غمس الواحد منها تلو الآخر في شتيت المذيبات، بغية استخلاص ما تحتويه من مركبات. وأعقبوا ذلك بإجراء فصل للمذيب فحصلوا على خلاصات خالية من المذيبات جرى تجفيفها (جففت بالتجميد).
بإيجاز نجح الكيميائيون في الكشف عن 40 مركبًا حيويًا فعالًا تتركز أساسًا في البذور وفي زيت البذور، وفي القلف والأوراق. كما اكتشفوا مركبات ذات فائدة عملية وتطبيقية مدهشة جعلت الناس يطلقون على النيم «شجرة الألف فائدة وفائدة».
فماذا – إذن – عن بعض تلكم الفوائد البارزة؟
الأوراق الشافية
الواقع أن أحدًا من باحثي العقاقير لم يكن يتصور أن شجرة النيم لديها قدرات على تخفيف آلام البشر إلى هذا الحد: إذ لا يعفى من الشجرة شيء لا يستخدم في التداوي والتطيب، فالأوراق والبذور والأزهار والقلف وعصارة النبات والأغصان، كل له إلى أوجاع وآلام البشر طريق.
ولنأخذ أوراق النبات المركبة ذات الحزوز مثالًا، فهي تبدو خصبة العطاء بما تنطوي عليه من مركبات فعالة بيولوجيًا، وهي تقدم مثالًا ساطعًا للدقة البالغة التي يحرزها كثير من المعالجين التقليدين. فعشابو الهند، لقرون طويلة ظلوا يستخدمون عصير الأوراق يدهنون به جلود المرضى الذين لديهم علة جلدية هنا أو هناك بتقدير إمكانية عينات من الأوراق على كبح الاضطرابات والأمراض الجلدية، وقد وجد الباحثون أن المعالجين القدامى كانوا على حق. فأوراق النيم وكذا عصير الأوراق والخلاصات المائية للورق أظهرت فعالية مضادة للقرصات الجلدية ولأعراض الأكزيما البادية.
ومن الأوراق تمكن الباحثون من تجهيز مراهم تستعمل خارجيًا لعلاج التقرحات والبثور الجلدية والدمامل والأكزيما والجروح. كذلك فإن فريقًا من الباحثين عرف من قدامى العشابين أن شرابًا معدًا من عصير أوراق النيم، أو المستخلص الناتج عن نقع الأوراق طويلًا في الماء يفيد أيما فائدة في تخفيف آلام المعدة وشتى الاضطرابات المعدية المعوية.
وبعد ذلك استخلص الباحثون من الأوراق شرابًا مركبًا يفيد في تطهير الأمعاء من الديدان المعوية والطفيليات، كما يخفف آلام المعدة، وعرف الباحثون أن السكان درجوا على استعمال خلاصة ومنقوع الأوراق كشراب لعلاج الحمى والملاريا.
ونجحوا أيضًا في استخلاص مادة النيمبيدول من الأوراق وثبت لديهم أنها تعمل كمضاد جيد للحميات كما تمكن الباحثون من استخلاص مركبات أخرى يمكن استخدامها كمسهل في صورة محلول لعلاج الإمساك. وفضلًا عن المركبات الفعالة التي عرفت قيمتها الدوائية فقد اتضح من التحاليل احتواء الأوراق على قدر حسن من فايتمو الكاروتينويدات وهي مجموعة كبيرة من مركبات الصبغات النباتية الذائبة بالدهون.
إن القيمة الحقيقية للكاروتينويدات لا تعود فحسب إلى كونها مصادر مهمة لفتيامين (أ) بالأبدان بل كذلك إلى صفاتها المضادة للأكسدة، حيث تثبط نشاط الشقوق الحرة التي تتولد عن عمليات الأكسدة الخلوية. وهذا مما يساعد على الحماية من عدد كبير من أنواع الأورام، وثمة أدلة تشير إلى تأثيرات مفيدة لهذه المركبات في تعزيز دور الجهاز المناعي.
ومن الطريف حقًا أن نعرف أن الناس في الغابة المدارية ظلوا لقرون طويلة يحتسون شاي أوراق النيم كمقو عام من شأنه توطيد صحة الأبدان.
فراشي الأسنان من الأغصان
تملكت العلماء الدهشة حين لاحظوا أن السكان الأصليين القاطنين بمناطق تزخر بأشجار النيم لا يصابون بتورم اللثة أو بتسويس الأسنان، بل لا يعرفون شيئًا عن تلك الأمراض. وقد دلت أبحاثهم على أن ذلك يعود إلى تنظيف أسنانهم بفرشاة طبيعية من الأغصان الصغيرة لشجرة النيم. ثمة أكثر من 500 مليون هندى يستخدمون الآن قطعًا من الأغصان كفرش للأسنان. وقد لا يبدو ذلك أمرًا غريبًا، إذا تأملنا في طبيعة الألياف المكونة للأغصان فهي على درجة من القوة الميكانيكية تكفي للتخلص من بقايا الطعام الكامنة بين الأسنان، كما تزيل عن سطوحها اللطع الجرثومية الغادرة.
وفوق ذلك فقد عثر المحللون بالأغصان على مواد مضادة للبكتيريا والعفونة، وإننا لنعرف بالفعل أن بالأغصان مادة النيمبيدين التي تظهر تأثيرات قوية مضادة للبكتيريا ومضادة للفطريات وهي مادة مسكنة أيضًا. إن فرشاة النيم الطبيعية هي مطهر جيد للفم واللثة والأسنان، ومثلما هي معطر جيد للأفواه. ولأجل ذلك فقد عمدت بعض الشركات الدوائية إلى استخلاص المواد الفعالة من أغصان النيم ومن الأوراق بغية إضافتها إلى معجون طبي جديد للأسنان يفيد في علاج اللثات الملتهبة ويحفظ صحة الأفواه.
عقاقير من البذور
لا تبدأ شجرة النيم تجود بمحصول بذرى قبل 4-5 أعوام من بداية عمرها المديد. وهي تنتج سنويًا ما يربو على خمسين كيلو جرامًا من بذور رفيعة القدر. فمن البذور يستخرج زيت يمتاز بطعم لاذع ورائحة نفاذة كرائحة الثوم والزيت محتواه من فيتامين (هـ) المضاد للأكسدة ومن الأحماض الدهنية لاسيما الأولييك والاستياريك والبالمتيك، عظيم. وأخطر من هذا ما يحتويه من مركبات فعالة تعطي للزيت خواصه الطبية الشافية. فهو إذ يوضع على جلد الإنسان يعمل على ترطيبه، كما يجنب المرء شر الإصابة بضربات الشمس.
وقد عثر بالزيت على مركبات تظهر تأثيرات قوية مضادة للعدوى الميكروبية وللفطريات التي تتكاثر على الجلد. ولأجل ذلك وجدنا الباحثين الألمان يستخدمون الزيت في صناعة نوع من الصابون الطبي لوقاية البشرة من العدوى الميكروبية. كذلك أنتجوا من الزيت مستحضرات تفيد في الوقاية والعلاج من قشرة الرأس، وفي تقوية الشعر وتطهيره من القمل وإضرابه من الطفيليات الرمية. ولكن الطريف هو ما ظهر للزيت من خواص مطهرة للفم حتى إن بعض الشركات اتخذته أساسًا لصناعة صنف خاص من اللبان الطبي. ونضيف بأن اختبارات تجرى الآن لبعض مركبات الزيت الفعالة، كي تستعمل في علاج أمراض الروماتيزم.
ومن جديد أبحاث النيم، أن فريقًا من باحثين هنود وألمان نجح مؤخرًا في استخلاص مواد فعالة من البذور، تضاد الفيروسات وتعرقل وظيفة فيروس نقص المناعة للإنسان (HIV) الذي يسبب مرض الإيدز.
كما وجد الباحثون أن المركبات المستمدة من الشجرة لا تستصحب معها غالبًا أية آثار جانبية مؤذية للإنسان. ولأجل ذلك وجدنا الكثيرين من باحثي العقاقير في العالم الغربي يكرسون جهودهم لحماية شجرة النيم وإكثارها عبر تشجيع الاستمرار في استعمالها بطريقة حكيمة «مستدامة»، أي دون استنزافها وعلى نحو يضمن بقاءها على الدوام. وفي الوقت نفسه وجدناهم يدعون إلى الإفادة بصورة أمثل من مركباتها الفعالة الدوائية باستخلاصها وجعلها على هيئة كبسولات أو بإضافتها إلى أدوية كيميائية مخلقة كمحسنات دوائية أو سوى ذلك من تقنيات.
مبيدات.. ومبيدات
حين نوازن بين مركبات النيم الفعالة والمبيدات الكيميائية التخليقية نجد أن مركب الأزاديراكين- خلافًا للمبيدات- لا يؤثر في الجهاز الهضمي أو العصبي للحشرات بل يؤثر في جهازها الهرموني بصورة تجعلها عاجزة عن تكوين مناعة له في المستقبل. والأزاديراكين- خلافًا للمبيدات لا يعد سامًا أو ضارًا للإنسان أو للحيوانات الأليفة أو للطيور أو حتى للحشرات النافعات. في حين يرصد العلماء في كل عام، ما يربو على 200 ألف شخص يلقون حتفهم جراء الإفراط في استخدام المبيدات التخليقية، فضلًا عن 3 ملايين حالة تسمم بالمبيدات.
وقد تم بالفعل إنتاج مبيد مستخلص من النيم عرف باسم «مارجوزان- MARGOSAN-O، أنتجته إحدى الشركات الأمريكية بالتعاون مع علماء من مختبرات «ويسكونسن». كما تم طرح نوعين جديدين من مبيدات النيم يصلح أحدهما في مكافحة آفات الحدائق المنزلية ، ويدعى «بيونيم- BIONEEM». في حين يكافح المبيد الثاني «مارجوزين- MARGOSEN»، الحشرات الأكثر انتشارًا في الصوبات الزراعية.
وأن مركبات النيم الحيوية لا تطهر الأجواء من الهوام والحشرات الطائرة فحسب، إذ تستطيع أشجار النيم إبعاد القوارض الساكنة بشقوق التربة وإبادة الديدان الرابضة. كما تستطيع أن تبيد بكفاءة قواقع المياه العذبة التي تأوي أطوار الطفيليات.
وثمة تجارب مثيرة أجراها علماء هنود في حقول الأرز فهم حين ألقوا فيها بعض أغصان النيم وجدوا أن يرقات البعوض أبيدت عن بكرة أبيها، كما رصدوا انخفاضًا مذهلًا في نسبة إصابة المزارعين بالملاريا. ولاحظوا أن الأغصان تكلفت بإبادة الكثير من الطفيليات النباتية، كما دعمت من خصوبة التربة مما ضاعف من المحصول على نحو غير مسبوق.
د. فوزى عبدالقادر الفيشاوي – أستاذ علوم وتكنولوجيا الأغذية