لقد اكتشف العلماء أن بعض التجمعات في مناطق معينة من العالم تتميز بأن أفرادها يتمتعون بأعمار طويلة بالنسبة لمعدل عمر الإنسان. فعمدوا إلى دراسة كل شيء عن هذه الجماعات، الظروف الطبيعية التي تعيش فيها، والعادات اليومية لأفرادها، ونوع الطعام الذي يتناوله هؤلاء الأفراد.. كل هذا للوصول إلى العامل الهام والمؤثر في العمر الطويل الذي يتميزون به.
القرى المعمرة
توصل العلماء إلى دراسة ثلاثة مجتمعات في مناطق مختلفة من العالم تتميز بوفرة المعمرين فيها، وهي: فيلكا بامبا بالأكوادور في أمريكا الجنوبية، وهونزا بكشمير، ومنطقة الجبال القوقازية في جنوب روسيا.
– فيلكابامبا، قرية معزولة في جبال الأنديز. أهل هذه القرية ينحدرون من أصل أوروبي، وأكبر المعمرين في قرية فيلكا بامبا يدعى ميجيل كاريبو يبلغ من العمر 129 سنة.
والقرية تقع في واد يرتفع 2500 قدم عن سطح البحر، وعلى بعد260 ميلًا جنوب خط الاستواء، تتسلط عليها أشعة الشمس القوية على مدار السنة. ويعيش أهل فيلكابامبا على الزراعة، يمارس الواحد منهم نشاطه الزراعي الكامل حتى يبلغ التسعين من عمره.
وأهل هذه القرية على اختلاف أعمارهم يتميزون بالنشاط، ويلتزمون في طعامهم بنظام غذائي منخفض السعرات، واستهلاكهم للدهون والبروتينات منخفض بشكل ملموس.
الوجبة التقليدية عندهم تتضمن البقول، والقمح، والبطاطس، ونبات نشوي يسمى اليوكا، بالإضافة إلى حساء الموز، والخبز، والفاكهة، (برتقال وعنب وبابايا). وهم يتناولون أقل القليل من اللحوم.
والمعمرون في هذه القرية يتمتعون بمكانة اجتماعية عالية، ويلعبون دورًا فعالًا في شؤون حياة أهلها..
– هوانزا، تقع بين جبال كراكورم بكشمير، وبين حدود أفغانستان والصين. وأهل هذه المنطقة ينتسبون إلى جنس يختلف عن باقي الأجناس الموجودة في المناطق المحيطة بهم، والشائع أنهم من سلالة جنود الإسكندر المقدوني. تقاطيعهم قوقازية، ويشبهون إلى حد بعيد سكان جنوب أوروبا، ومما حير الدارسين أن اللهجة التي يتكلمون بها غريبة، لا تشبه أي لغة من اللغات المعروفة.
وقد جاء في تقرير للدكتور الكسندر ليف، رئيس الهيئة الطبية في مستشفى ماساشوسيت العام، والأستاذ بكلية الطب في جامعة هارفارد، أنه رأى «عددًا غير عادي من البشر الضخام، يرتقون سفوح المنطقة الشديدة الانحدار ويهبطون عليها بكل نشاط، رغم ما يبدو عليهم من كبر السن».
ويحكي دكتور ليف، كيف أنه التقى عام 1973 رجلاً يدعى نولاه بيج يبلغ من العمر 110 سنوات. وقد أخبره أهل هذه المنطقة أن بعضهم يعيش حتى يبلغ 140 سنة من عمره.
والملاحظ أن أهل منطقة هونزا يقومون بجهد جسماني كبير منتظم، فيمشي الواحد منهم ما يصل إلى عشرة أميال يوميًا. وبحكم ظروف حياتهم، يجبر الواحد منهم على حمل الأحمال الثقيلة وارتقاء الجبل أو هبوطه بها.
ووجبتهم الغذائية التقليدية عمادها الحبوب وبعض الخضراوات ذات الألياف، والبطاطس، والبازلاء، والبقول، واللبن، والفاكهة (وهي أساسًا الخوخ والتوت الأرضي). وهم يأكلون اللحم في مناسبات نادرة.
والمعمرون في هونزا، لا ينعزلون عن حياة مجتمعهم، بل إنهم يحتلون مكانة اجتماعية عالية. والمير (أي الحاكم) يعتمد في أحكامه اليومية على مشورة مجلس من الحكماء كبار السن.
ولا يتوقف المعمرون في هذه المنطقة عن ممارسة نشاطهم العملي، وغالبًا ما يقومون ببعض الأعمال المفيدة، مثل تنقية الحقول من الأعشاب الضارة بالزراعة، وإطعام الدواجن، وغسل الملابس، والعناية بالأطفال.
– منطقة الجبال القوقازية، القوقازيون، على عكس أهل هونزا وفيلكابامبا، يغطون مساحات شاسعة من جمهوريات جورجيا، وأذربيجان، وأرمينيا. وأعلى نسبة من المعمرين نجدها بصفة خاصة في أبخازيا جنوب جورجيا. وأعلى نسبة من البشر الذين تجاوزوا المائة عام من عمرهم نجدهم القوقازيين.
وأكبر المعمرين المعروفين في هذه المنطقة من المعاصرين هو شيرالي مسلميف الذي مات في أذربيجان وقد بلغ من العمر 168سنة.
والمناخ الذي يعيش فيه القوقازيون يتباين وفقًا للارتفاع عن مستوى سطح البحر، بين الدافئ والرطب – على امتداد شواطئ البحر الأسود – والجاف والقاري في المدن الجبلية، والأغلبية العظمى منهم تعيش في الجبال. والأصول العرقية أو الجنسية عند المعمرين القوقازيين متنوعة، ومن بينهم الجورجيون، والروس، واليهود، والأرمن، والأتراك.
ونحن نجد المعمرين القوقازيين في المجتمعات الزراعية، ويعملون بالصيد أو الزراعة. وهم أيضًا يتمتعون بمكانة اجتماعية مرموقة بين ذويهم ويمارسون حياة نشطة..
لقد جرت دراسة على طعام ألف شخص من الذين تزيد أعمارهم على 80 سنة، فوجد إن 60% من وجباتهم تتكون من اللبن والخضر واللحوم والفاكهة، وهم يستمدون أكثر من 70 % من السعرات الحرارية ومستخرجات البروتين الرئيسي، أما الخبز فهو المصدر الرئيسي للكربوهيدات.
سر العمر الطويل
فما هي العوامل الملفتة والتي يشترك فهيا أبناء المناطق الثلاث التي تعرف بطول عمر أهلها؟
أول عامل مشترك هو أنها جميعًا مناطق ريفية، ذات طبيعة جبلية تقتضي من سكانها مجهودًا عضليًا يوميًا كبيرًا.. وقد أرجع العلماء ارتفاع كفاءة الجهاز الدوري عند المعمرين، والتوافق العضلي العام لديهم، إلى المجهود الجسماني الدائم في حياتهم، والذي تقتضيه ضرورة التنقل اليومي بين المناطق الجبلية مشيًا على الأقدام.
وقد اكتشف البروفيسور بيتز كيلوري رئيس مركز دراسات الشيخوخة في تبليسي بجمهورية جورجيا في الدراسات التي قام بها على المناطق الثلاث، أن حالات كسر العظام فيها تعتبر من الحالات النادرة. ولعل السر في ذلك أن النشاط الجسماني الدائم يدعم صلابة العظام ويجعلها قوية…
فمن الثابت أن انخفاض الحركات ونقص المجهود الذي يبذله الإنسان في أي عمر من الأعمار، يسبب نقصًا في نسبة أملاح الكالسيوم بالعظام، مما يجعلها هشة قابلة للكسر. وهو الأمر الشائع عادة بين كبار السن.
الدكتور دافيد كاكياشفيلي أخصائي القلب بجمهورية جورجيا، والذي أمضى 12 عامًا في دراسة الشيخوخة، يعتقد أن التمرينات البدنية المنظمة هي أكبر العوامل تأثيرًا في إطالة العمر.
وخلال دراسته لحالة القلب والرئة عند المعمرين القوقازيين، وجد أن لديهم كل أعراض أمراض القلب والأوعية الدموية. لكنهم يتحملون أي خلل في الجهاز الدوري لم يكن ليعيش به الإنسان العادي ويتحمله.
ويقول دكتور كاكياشفيلي إن مرجع ذلك إلى المجهود الجسماني المتواصل الذي يبذله أبناء هذه المناطق، والذي يمد عضلات القلب بمزيد من الأكسجين. ولهذا فإن المعمرين القوقازيين يصابون كغيرهم بنفس الأزمات القلبية، إلا أنهم نتيجة لظروفهم هذه، لا يشعرون بالأزمات، فتمر عليهم في صمت ودون معاناة.
تجديد الشباب بالطعام
قام أخصائي القلب العالمي دكتور ميجيل الفادور، الطبيب الأكوادوري الكبير، بتكوين فريق من علماء القلب لدراسة أحوال سكان فيلكابامبا، وقد خضع لهذه الدراسة 159 معمرًا، و180 معمرة، لم يجد هذا الفريق أي آثار لطول العمر على الأوعية الدموية، أو أي تاريخ للأمراض القلبية.
وقد أشار في تقريره إلى أن قرى هذه المنطقة لا توجد بها مستشفيات أو أطباء، وأن أهل المنطقة في مواجهة أي علة من العلل، يعمدون إلى الصوم، أو تناول بعض الأعشاب والاعتماد على العلاج الطبيعي.
ويربط دكتور سلفادور الحالة الصحية النادرة للمعمرين في تلك المنطقة، بالنظام الغذائي الخاص الذي يتبعونه. ويرى أن النظام الغذائي عنصر أساسي من عناصر طول العمر.
النظام الغذائي التقليدي في منطقتي هونزا وفيلكابامبا يتشابهان في انخفاض نسبة البروتين والدهون، وارتفاع نسبة الكربوهيدرات فيهما، مما يهدم مقاييس التغذية الشائعة في العالم المتحضر.
ومع أن الاستهلاك اليومي للسعرات دون المعدل المقترح من جانب أكاديمية العلوم بالولايات المتحدة الأمريكية لمن يتجاوزون الخامسة والخمسين من العمر، فإنه لم يحدث في أي المنطقتين أن ظهرت بوادر لسوء التغذية.
وقد أجرى الجراح دكتور ماككارسون مدير معهد التغذية بالهند عدة تجارب في التغذية، تضمنت إطعام فئران المعامل وفقًا للنظام الغذائي المتبع في المنطقة هونزا على مدى سنتين وربع.
وخلال هذه الفترة من الزمن لم يتعرض أي من هذه الفئران للمرض أو الموت. وعندما أخضع بعض الفئران المريضة لذلك النظام الغذائي، تحسنت صحتها. هذا في الوقت الذي تعرضت فيه الفئران السليمة لعدة أمراض عندما تناولت طعامها وفقًا للنظام الغذائي الإنجليزي أو الهندي.
من ناحية أخرى، فإن مثل هذه النتائج تفقد الكثير من قيمتها، إذا ما تأملنا النظام الغذائي الخاص بالمعمرين القوقازيين، بما فيه من نسبة بروتينات حيوانية ودهون عالية.
وعند إعطاء هذه النقطة اهتمامًا خاصًا في محاولة لتفهم سر هذا التناقض، اكتشف العلماء من واقع أقوال المعمرين القوقازيين، أنهم بدؤوا حياتهم بنظام غذائي يعتمد أساسًا على البقول والخضر، وأن تحولهم إلى البروتينات الحيوانية والدهون جاء بعد ذلك.
ومن واقع التجارب التي جرت على الحيوانات، ثبت أن النظام الغذائي منخفض السعرات خلال سنوات الحياة الأولى هو الذي يطيل العمر، حتى لو تغير ذلك النظام الغذائي بعد ذلك. ومن هنا توصل علماء التغذية إلى فكرة أن النظام الغذائي منخفض السعرات في السنوات الأولى من حياة الإنسان، لا يقل أهمية عن الاعتدال في استهلاك الطعام في أواسط العمر أو عند تقدمه.
الوراثة.. والزواج
ماذا يبقى بعد ذلك من عناصر يحتمل أن تكون مؤثرة على طول العمر بخلاف الطبيعة الجغرافية ومعدل الجهد الجسماني والنظام الغذائي؟
يميل البعض إلى إدخال عنصر الوراثة في ترجيح طول العمر. فجميع المعمرين الذين تناولهم دكتور ليف بالدراسة، كان أحد والديهم قد تجاوز المائة عام.
ورغم أن علماء الوراثة يقولون بعدم وجود جينات أو حاملات للعناصر الوراثية، تكون مختصة بتوريث طول العمر، إلا أنه من المحتمل أن غياب بعض الجينات السلبية، يقلل من مخاطر التأثر بالأمراض المميتة.
ومن العناصر الأخرى التي يرجع إليها طول حياة بعض قاطني هذه المناطق، ما يتمتع به المعمر من مكانة اجتماعية كبيرة، والإحساس الشائع بين هذه الجماعات بتواصل الأجيال.
فهم ينظرون إلى المعمر باعتباره مكمنًا للحكمة، نتيجة للخبرات الواسعة التي صادفها في حياته الطويلة، لهذا تؤخذ كلمة المعمر في هذه المجتمعات كقانون. ووفقًا لدراسة جرت بجمهورية جورجيا، وجد أن الشخص المسن سرعان ما يموت إذا ما فقد دوره المفيد في مجتمعه.
ومن العوامل التي درسها الباحثون في القوقازيين، عامل الارتباط بين الزواج وطول العمر. فمن بين 15 ألف حالة ممن تجاوزوا الثمانين من عمرهم، لا يصل إلى الأرقام القياسية في طول العمر سوى المتزوجين، فيما عدا استثناءات نادرة. ومن هنا استنتج أن الزواج والحياة الجنسية الممتدة، ضرورية لطول العمر. كما اكتشف أن النساء اللاتي لديهن العدد الأكبر من الأطفال يعشن عمرًا أطول.