في جلسة علمية إيمانية عصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهن أصحابه قائلًا لهم: (مثل المؤمن كشجرة لا يتحات ورقها) أي لا يسقط ورقها.
هل تعلمون الشجرة المقصودة في الحديث السابق؟ وما الحكمة في تشبيه المؤمن بهذه الشجرة؟!
الحديث كما رواه الإمام مسلم في صحيحه: عن ابن عمر – رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا لأصحابه: (أخبروني عن شجرة مثلها مثل المؤمن).
وفي رواية (مثل المؤمن كشجرة لا يتحات ورقها) فجعل القوم يذكرون الشجر من شجر البوادي، قال ابن عمر رضي الله عنهما: وألقى في روعي أنها النخلة، فجعلت أريد أن أقولها فإذا بأسنان القوم «أي كبارهم وشيوخهم» فأهاب أن أتكلم.
فلما سكتوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هي النخلة).
إذًا الشجرة المقصودة هي النخلة.
والسؤال الثاني المطروح ما الحكمة في تشبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بالنخلة؟
إليكم بعض ما فتح الله به علينا في ذلك:
ثبات الشكل الظاهري:
النخلة رغم جمالها الأخاذ لها شكل ظاهري واحد لا يتغير إلا للأحسن فيزداد حسنها بظهور ثمرها ودنو قطوفها. وللمؤمن أيضًا هيئة ظاهرية واحدة، لا يتقلب حسب الموضة والأهواء ولكنه يتزين لزوجته فيسرها بمنظره وهو يتزين في العيدين وقت قطوف ثواب الصوم والحج كما تتزين النخلة وقت قطوف الثمر، ويتزين يوم الجمعة وعند المجالس والمساجد ومقابلة الوفود وهو يتزين بالمشروع ولا يتزين بغير المشروع.
ثبات الأصل وسمو الفرع:
النخلة أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء تتحمل الجفاف وتقلبات الطقس وتصبر على الشدائد البيئية ولا تعصف بها الرياح بسهولة وتستمد طاقتها من الشمس والهواء بورقها المهيأ لذلك. والمؤمن قوي ثابت في أصول الإيمان يرتبط بالأرض التي خلق منها واستمد منها الماء والمعادن ويتحمل الشدائد والفتن والابتلاء ويصبر ولا يضجر وهامته مرفوعة تستمد نورها وعلمها من السماء حيث الوحي وأوامر الله. وقوة المؤمن في عقله وتفكيره، وقوة النخلة في هالتها الورقية، والمؤمن لا يستغني عن الوحي الإلهي، والنخلة لا تستغنى عن الضوء الإلهي.
النفع الدائم:
النخلة نافعة بثمارها وأوراقها وظلها وجذعها وخوصها وكرانيفها وليفها وكروبها وعذوقها وأنويتها وقطميرها وجمارها وجمالها في حياتها وبعد موتها. والمؤمن أينما وقع نفع وهو نافع: بعلمه وأخلاقه وماله وجهده وحديثه وفضل زاده وفعله وقوته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وتعاونه على البر والتقوى وتراحمه وترابطه وتآزره مع المجتمع.
مقابلة السيئة بالحسنة:
النخلة صبورة حليمة كريمة ترمى بالحجر فتسقط أطيب الثمر. والمؤمن معرض عن اللغو وإذا خاطبه الجاهلون قال سلامًا، ويصفح عن المسيئين ولا يظلم ولا يجهل الجاهلين كما قال الشاعر:
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعًا
يرمى بحجر فيلقي بأطيب الثمر
دنو القطوف مع سمو الأخلاق:
النخلة قطوفها دانية في كل أحوالها في حال قصرها وطول جذعها لسهولة الصعود إليها والصعود إليها لا ينال من أوراقها ولا يكسر أغصانها ولا ينال جمارها ولا برعمها الطرفي.
والمؤمن سهل القطوف يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة ويطعم الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا يحب الناس ويغدق عليهم ولا يتخلى عن أخلاقه وثوابته مهما زادت الألفة والمحبة والمخالطة بينه وبين الناس.
يؤكل ثمارها كل حين:
النخلة يؤكل ثمرها بكميات كافية كل حين على هيئة: الطلع والجمري والبُسر والرطب والمقابة والتمر وعندما تجف الثمار تؤكل طوال العام فهي زاد للمسافر وعصمة للمقيم سهلة التخزين بطيئة الفساد والتغير. والمؤمن يخرج زكاة ماله كل حول إن بلغ ماله النصاب ويخرج زكاة فطره في رمضان ويتصدق طوال العام ويسارع في الخيرات ويطعم الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا وهو يطعم عند العقيقة لأبنائه وعند الزواج وعند الأضحية وعند الحج وعند خروج الثمار وغير ذلك من أوجه إطعام الطعام.
محكومية الحركة:
النخلة غير مدادة حيث لا تعتدي على جيرانها بسياقنها أو فروعها ولها حرم معلوم وهي محكومة في انتشارها في البيئة لذلك لا تؤذي المحيطين بها.
والمؤمن محكوم بالضوابط الشرعية مع المحيطين به ومتوقع السلوك ولا يدخل بيت غيره إلا بإذنه ولا يطلع على عورات غيره ولا يترك لبصره العنان وتجده حيث أمره الله وتفتقده حيث نهاه ويتقي الله حيثما كان.
تشذب في العام مرة:
النخلة تشذب في العام مرة واحدة حيث تسقط الأوراق الصفراء التالفة. والمؤمن يصوم في العام مرة وتسقط عنه ذنوبه بالصوم ويتزين بعد الصيام في العيد.
أهمية البرعم الطرفي:
خلاف معظم الشجر تموت النخلة إذا قطع برعمها الطرفي. والمؤمن من دون العقل يسقط عنه التكليف والحساب ويصبح في عداد الأموات من حيث الثواب والعقاب.
معلومية التلقيح:
رغم أن النخلة من ذوات الفلقة الواحدة ذاتية التلقيح الهوائي مثل القمح والشعير والذرة والموز والأرز، إلا أنها خلاف نباتات الفلقة الواحدة تحتاج إلى تأبير وهي تعلن عن حاجتها للتلقيح عندما تخرج نوراتها، وعندما يتم تلقيحها تنشق بطريقة يعلم الجميع منها أنها لقحت، وإذا تركت دون تلقيح بالإنسان شاصت. وكذلك المؤمن مشهود على زواجه ودخوله على زوجه من الجميع ومعلن عن ذلك بالدفوف، ويحتاج زواجه إلى شاهدين وولي وإيجاب وقبول والزواج السري باطل.
أفضلها معلومة الصفات الوراثية:
أفضل أنواع النخل معلوم الأصل حيث يتم تكاثره خضريًا بالفسائل أو بزراعة الأنسجة.
والمؤمن معلوم الأصول الوراثية وهو ثابت في دينه لا يبتدع ولا يخلط شرع الله بشرع البشر وإذا صنع ذلك فسد عمله ورد كما يتلف النخل إذا بدل صفاته الوراثية ولا تؤكل ثماره ولا تباع بسهولة بل يعلف به الدواب لرداءته.
حلو الطعم عديم الرائحة:
ثمار النخلة حلوة الطعم عديمة الرائحة وكذلك المؤمن الذي يعمل بالقرآن فطعمه حلو ولا رائحة له.
تفاوت الدرجات:
النخلة أنواع وأجناس وأصناف منها: شديد الحلاوة ممتاز الطعم كالعجوة وهي تمر المدينة المنورة ومنها جيد الطعم ومع ذلك ففي كل النخل خير، وكذلك إيمان المؤمن يزيد وينقص والمؤمنون درجات منهم الصديقون ومنهم السابقون ومنهم المذنبون. وكما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير).
النخلة لا يتساقط ورقها
تعد الورقة في النبات الموضع الرئيس للبناء الضوئي والنتح ورفع العصارة من الأرض وتثبيت ثاني أكسيد الكربون الجوي وطاقة الشمس الضوئية وشطر الماء لإنتاج المواد الغذائية والأكسجين للكائنات الحية، وعندما تسقط الورقة في النباتات الوسطية تتوقف العمليات السابقة وتدخل الشجرة في كمون للعام القادم. أما النخلة فهي من النباتات دائمة الخضرة التي لا يتحات «أي يسقط» ورقها فهي دائمة البناء الضوئي وإنتاج الأكسجين والتظليل وصعود العصارة. وهكذا المسلم دائم التلقي من الله ودائم الإنتاج والعبادة طوال العام ولا يستغني عن رحمة الله ورزقه وطاعته طرفة عين فهو دائم التلقي والعطاء، كما أن النخلة دائمة التلقي والعطاء.
د. نظمي خليل أبو العطا
أستاذ الفلسفة في العلوم (نبات)