في أوائل السبعينات من القرن الماضي حزمت حقائبي وسافرت إلى أوربا مبتدئا بفرنسا أو ألمانيا، وهناك اشتريت سيارة لأتجول بها في أوربا وأمتع نفسي بالمناظر الساحرة التي حباها إياها الله عز وجل، بحيث لا أرى بقعة جميلة خلابة إلا توقفت فيها لأستريح وأشرب كأسا من الشاي، وكانت هناك على الطرقات استراحات مجانية أقامتها تلك الدول وبنت فيها بيوتا للخلاء تشع منها النظافة، وغرفا للاستحمام الخفيف (الدوش)، وجهزت بمناضد خشبية تحيط بها مقاعد خشبية مصنوعة من جذوع الأشجار
كانت تلك الاستراحات ملاذا للمسافرين، يجدون فبها ما يحتاجونه من سبل الراحة،
وقد كان من مبادئي ألا أدخل مطعما في أوربا إلا إن كنت أريد أن آكل سمكا. ولقد رويت في مقالة سبقت كيف تقتل الحيوانات في أوربا بما لا يترك شكا لمسلم أن يستبرىء لدينه وعرضه، وأن يبتعد عن أكلها إلا إذا كانت مذبوحة بيد لحام ينص أنه يبيع اللحم الحلال.
وفي إحدى المرات سافرت إلى باريس بصحبة أخي وأحد الأصدقاء، لقضاء بعض الأعمال من شراء سيارة وتوابع ذلك، وكنا نعتمد على بعض الجبن والزيتون والمربى الذي حملناه معنا من دمشق، ولكن بعد أن انتهت مشاغلنا انصرفنا إلى التجول في الأماكن السياحية والقصور والحدائق،وتاقت نفس أحدنا إلى الطعام المطبوخ، ولم يكن الأمر بالنسبة إلي عسيرا، فمضيت إلى حي “باربس”، وهو حي أكثر سكانه من الجزائريين، وكانت تقام فيه سوق تبسط فيه المعروضات وتباع بأسعار رخيصة وكان الإنسان يجد في تلك السوق ما يرغب فيه من أنواع الأطعمة والمعلبات وأدوات المطبخ والملابس والعطور…. الخ
واشتريت قدرا صغيرة لها يد وغطاء، وقالبا من الزبد، وعلبة من البازلاء، وعلبة من دبس الطماطم. ثم يممت وجهي نحو بائعي اللحم الذين يبيعون اللحم الحلال المذبوح، وتحققت أن اللحم مذبوح واشتريت قطعة من اللحم، وكانوا يبيعونه على العظم, واستعرت سكين اللحام وفصلت اللحم عن العظام، ثم قطعته قطعا صغيرة.
الآن أصبحت المواد الأولية لطبخ البزاليا جاهزة. ولكن كيف سنقلي اللحم، وخطر لي أن أقليه في الفندق ولكن الرائحة سوف تفضحنا وتسبب لنا مشكلة مع إدارة الفندق، وكان معي محفظة من نوع النفخ كنت قد ملأتها بجبن وزيتون وحلاوة وشاي وقهوة وملح وفلفل…الخ، ووجدت فيها بغيتي فوضعت فيها موقدا يعمل على الكحول وقوته الحرارية شديدة، والقدر وقد وضعت فيها الزبد واللحم، ثم ذهبت إلى شارع الشانزليزيه وهو أشهر شارع في باريس ، وجلست مع أخي على كرسي ثم وسعت أطراف المحفظة إلى الجوانب حتى لا تحرقها النار وأوقدت الموقد
حين مضى بعض الوقت كان الزبد قد سال واللحم بدأ ينضج وبدأت الأبخرة تخرج من داخل المحفظة ، والناظر اليها كان يظن أنها تحترق، وكان المارة تصيبهم الدهشة فيحاولون تنبيهنا إلى أن حريقا في المحفظة بينما كنا نغالب ضحكنا ونكتم قهقهتنا، وبين الفينة والفينة كنت أمد يدي إلى داخل المحفظة فأمسك بيد القدر وأهزها حتى يتقلب اللحم ويأخذ حظه من النضج. كل هذا والسعادة تغمرنا والضحك المرتفع يكاد يفضحنا.
حتى إذا وجدت أن اللحم قد نضج أغلقت سحاب المحفظة ومضيت إلى الفندق، وهناك وفي الغرفة فتحت علبة البازلاء وعلبة دبس الطماطم فصببتها فوق اللحم، وأضفت الملح والفلفل، ثم عمدت إلى النافذة فوضعت الموقد والقدر فوقه على بلاط النافذة، والموقد يشتعل ثم أغلقت الشباك الخشبي الخارجي للنافذة إلا قليلا وأغلقت النافذة الزجاجية بإحكام واضطجعت ونمت
أفقت قبل آذان المغرب بقليل وهرعت إلى النافذة لأرى ماذا حل بالطبخة، وكم كانت دهشتي كبيرة حين وجدت أن الطعام كان ناضجا، وأن مرق البازلاء قد طف عن جوانب القدر وتساقط على بلاطة النافذة أسفل غرفتي. وكانت تغمرنا الفرحة ونحن نتناول وجبة بازلاء لذيذة وطيبة.
والآن وبعد أكثر من ثلاثين سنة أذكر ما فعلت فيستغرقني الضحك ، وأسأل نفسي هل هناك من صنع ما صنعت؟ ثم أضحك وأقول لن أعود لمثلها
بقلم : محمـد ســـعيـد المولوي