يمكن تعريف العافية الرقمية بأنها التأثير الذي تُحدثه التقنيات والأجهزة الرقمية في الصحة العقلية والجسدية والعاطفية والاجتماعية للشخص المستخدم لها. ولا يقتصر الأمر على الطريقة التي نتفاعل بها مع التقنية، وإنما يركّز أيضًا على طريقة بناء التوازن والحفاظ عليه بفاعلية في حياة المستخدمين، سواء على الإنترنت أو خارجها، لا سيما وأن الجائحة أحدثت فيها اختلالًا ملحوظًا.
وتبنى غالبية سكان العالم خلال مدّة الثمانية عشر شهرًا الماضية أسلوب معيشة أكثر رقمنة في كثير من مناحي الحياة. وغيّرت قدرات الاتصال الطريقة التي يتفاعل بها المستخدمون فيما بينهم من جميع الجوانب وعن بُعد، من التسوّق إلى الترفيه والعمل وحضور الدروس والاجتماعات والتعارف، وصولًا إلى بناء المجتمعات عبر الإنترنت. وشكّل الانقطاع المادي الحتمي عن العالم سببًا للتوتّر والقلق بين المستخدمين، ما دفع كاسبرسكي، منذ اندلاع الأزمة، إلى البحث في نموذج “العافية الرقمية” والاهتمام به في سياق الجهود المبذولة لمكافحة الآثار السلبية للجائحة.
ويرى المستخدمون، وفقًا لدراسة عالمية حديثة، أن التقنيات لها تأثير محايد أو حتى إيجابي في شعورهم بالعافية. لكن عندما يتعلق الأمر بعدد المرات التي يؤدي فيها الشخص نشاطًا ما وكيف يشعر بأثر هذا النشاط فيه، وجدت الدراسة العديد من المخاوف؛ فعلى سبيل المثال، يشعر 28% من المشاركين في الدراسة أن مشاهدة أي محتوى على أجهزتهم قبل النوم سوف يؤثر سلبًا في صحتهم. وبالمثل، يرى 26% من الأفراد أن استخدام أكثر من شاشة في وقت واحد ليس بالأمر المفيد لهم.
وفي هذا الإطار، قالت الخبيرة النفسية و استشارية المقيمة في دبي، آمنة حسين، إن التقنيات الرقمية غيرت الطريقة التي يتعلم بها الناس ويعملون ويلهون ويتواصلون ويتسوقون، بل وحتى يتلقون العلاج، مؤكّدة أن هذا الأمر أصبح حقيقة تجلّت بوضوح خلال العامين الماضيين، وأن المعيشة وسط هذا الانغماس الرقمي تنطوي على مجموعة من التحديات، بالرغم من المنافع الكبيرة التي تجلبها للمستخدمين.
وأوضحت أن التسلّط عبر الإنترنت، والاحتيال الرقمي، والتهديدات المحدقة بأمن البيانات، والانفصال عن الآخرين، والإرهاق والضغط والخمول والتأثير السلبي في الاعتزاز بالنفس، وقلّة التركيز، وقلّة النوم الجيّد، واختلال التوازن في الحياة العملية، وكل ما يُسفر عنه الاتصال المفرط بالإنترنت، قد يُضرّ بعافية المستخدمين، داعية إلى مضافرة جهود الأفراد والأسر والموظفين لاكتساب ما يلزم من معرفة وأدوات وضوابط لإعطاء الأمن الرقمي والعافية الرقمية الأولوية المنشودة.
وضربت الخبيرة النفسية مثلًا بالتقدّم التقني في الزراعة والصناعة، الذي قالت إنه سمح بإتاحة الأطعمة الرخيصة على نطاق واسع وجعلها في المتناول، مشيرة إلى أن الأفراد تعلموا تجنّب الأغذية المعالجة بإفراط والمحتوية على نسب عالية من السكر والمواد الكيميائية، للحفاظ على الصحة البدنية. وأضافت: “بالطريقة نفسها تقريبًا، لدينا القدرة على ضبط الوقت الذي نقضيه على الشاشة ونوعية المحتوى الذي نستهلكه عليها، وأن نتحلّى بالمسؤولية تجاه عاداتنا الرقمية وجعل التقنية تعمل لصالحنا”.
ومضت آمنة حسين إلى القول: “ينبغي لنا مراقبة نشاطنا على الإنترنت وتحسين استغلالنا للوقت الذي نقضيه أمام الشاشة، ووضع حدود فاصلة بين العمل والترفيه، وتحديد مناطق يُمنع فيها استخدام الأجهزة في المنزل، مع محاولة التخلّص من السموم الرقمية لفترة من الوقت، وقضاء بعض الوقت في الحركة والتأمل وفي أحضان الطبيعة، وذلك من أجل حماية صحتنا. ويمكن أن يؤدي انشغالنا المستمر بالأجهزة إلى شعورنا بالتوتر والانفصال عن أنفسنا وأحبائنا، لذلك من المهم تخصيص وقت للتفاعل المباشر مع الآخرين والتواصل ومشاركة اللحظات الحقيقية معهم، وهذا الأمر ضروري لعافيتنا الرقمية”.
وما زال المستخدمون، من ناحية أخرى، يتعلمون الاعتناء بعلاقتهم مع التقنية حتى يتمكنوا من تحسين مستوى الوثوق في الأنظمة والأجهزة التي تنطوي على بياناتهم الشخصية، لحمايتها ولتجنب القلق أو الإرهاق المحتملَين.
من جانبه، قال آرا أراكيليان مدير الموارد البشرية لمنطقة الشرق الأوسط وتركيا وإفريقيا لدى كاسبرسكي، إن أبناء الأجيال الأكبر سنًا لم يكونوا معتادين على الأجهزة الرقمية أو حتى مرتاحين لها، ولكن كان عليهم الخضوع لتغيير ذهني من أجل البقاء على اتصال مع أحبائهم. مشيرًا كذلك إلى أن الأطفال اضطروا إلى التكيّف مع التعليم الرقمي في وقت لم يكن الحضور الشخصي للدروس ممكنًا، مع أنهم نشأوا مع التقنية. وأضاف: “أما اليوم، فقلّما يتعين علينا تعلّم ما يجب فعله عبر الإنترنت في مقابل ما ينبغي لنا تعلّم إدارته في الفضاء الرقمي. وثمّة طرق مختلفة لمعالجة التوتر الناجم عن التقنية؛ كإيقاف تشغيل إشعارات الجهاز لمدة ساعة يوميًا، وتحسين ترتيب مساحة العمل وإراحة وضعية الجلوس. كذلك يتعلق الأمر بالتفكير بطريقة مختلفة في التقنية واستخداماتها لتحسين حياتنا والتقليل من مستويات التوتر”.
وثمّة طرق للمساعدة في ضمان حياة رقمية صحية تضع العافية الرقمية في صُلب اهتمام المستخدمين الذين ليس عليهم الاستسلام للمخاوف الرقمية، وقد أسست كاسبرسكي في هذا السياق، على سبيل المثال، خدمة Cyber Spa، وهي مساحة رقمية فريدة من نوعها يمكن للمستخدمين فيها ممارسة العديد من أساليب الاسترخاء عبر الإنترنت بهدف مساعدتهم على التعامل مع التوتّر والقلق الرقمي. وتشمل هذه الأساليب التأملات السمعية والبصرية، والعلاج بالاسترخاء الصوتي، والتأمل اللمسي لمكافحة الإجهاد، والتمارين التي تهدف إلى إزالة علامات التوتر والعواطف السلبية.
جدير بالذكر أن آمنة حسين استشارية مقيمة في دبي، تركز في عملها على مساعدة الأفراد والأسر على تبني نظرة شاملة تجاه شعورهم بالصحة والعافية، وإجراء تغييرات معرفية وسلوكية تسمح لهم بتحسين حياتهم. وخلال 12 عامًا من عملها، استخدمت آمنة خبرتها في علاج الإدمان والسلوكيات الواعية، لتوجيه الأفراد نحو تعزيز التواصل مع أنفسهم ومع الآخرين واتخاذ خيارات صحية في حياتهم. ولديها اهتمام كبير بتنمية الأطفال وتأثير التقنيات في صحتهم وإبداعهم وتنشئتهم الاجتماعية، وتعاونت مع شركات ومؤسسات تعليمية لوضع أفضل الممارسات لتحسين عافية الأطفال. وبصفتها مدربًا عالميًا لليقظة الذهنية وأحد الداعمين للصحة العقلية، تتحدث آمنة في المدارس والشركات والمستشفيات وتقدّم مساهمات إعلامية متكررة لرفع الوعي بالصحة العقلية وتمكين الأفراد من فهم التأثيرات السلبية التي تنتقص من عافيتهم والتصدي لها. مزيد من المعلومات في الموقع psychiatryandtherapy.ae.