التسمم الوراثي هو نوع من التسمم الغذائي في المقام الأول، ولكنه غير مصحوب بأعراض ظاهرية فورية، حيث يتطلب ظهور الأعراض فترة زمنية طويلة تصل إلى سنوات.
تظهر الآثار الضارة للتسمم الوراثي في صورة خلل بالمادة الوراثية (الجينات)، قد يصاحبه الإصابة بمرض ما. وقد يمتد الخلل إلى الأجيال القادمة في حالة تأثر المادة الوراثية في النطف (الحيوانات المنوية عند الذكر والبويضات عند الأنثى). وغالبًا ما يؤدي ذلك إلى تشوهات خلقية وتخلف عقلي، فضلًا عن القابلية للإصابة بأمراض معينة.
وينجم التسمم الوراثي عن وجود مواد كيميائية بتركيزات طفيفة في المواد الغذائية أو المشروبات بكافة أنواعها من المياه والعصائر التي يتناولها الفرد، ولا يصاحب هذه التركيزات أي أعراض ظاهرية تذكر، وتتراكم نسبة من هذه المواد يومًا بعد يوم في خلايا الجسم، وبمرور الوقت يزداد التركيز حتى يصل إلى الحد الضار الذي يظهر تأثيره على المادة الوراثية للفرد.
لكن يختلف التركيز والتأثير الناتج عنه باختلاف المادة الكيميائية. وقد يكون التأثير قاصرًا على الفرد ذاته، وقد يمتد إلى بعض من نسله.
وفي الحالة الأولى (إذا كان التأثير قاصرًا على الفرد ذاته) تكون المناسل (الخصيتان في الرجل والمبيضان في الأنثى) سليمة، بمعنى أن تركيز المواد الكيميائية فيها لم يصل بعد إلى الحد الضار الذي يتلف خلاياها ومادتها الوراثية.
وعلى النقيض يكون التركيز مرتفعًا في أعضاء حيوية أخرى بالجسم مثل الكبد، والكلى، والرئتين ونخاع العظم… إلخ.
وعند حدوث طفور (تغير في المادة الوراثية) في خلايا هذه الأعضاء، غالبًا يكون مصحوبًا باضطرابات مختلفة تزيد من قابلية الفرد للإصابة بالأمراض ومن بينها السرطان.
ومن السرطانات ما هو سائل مثل سرطان الدم (اللوكيميا) والذي ينتج عن تلف للمادة الوراثية في الخلايا الأمية الأساسية الموجودة في نخاع العظم التي تكون الكرات الدموية مما يدفعها إلى الانقسام المستمر، وقد يصل عدد الكرات البيضاء في بعض الحالات إلى أضعاف أضعاف العدد في الحالة الطبيعية. وتعرف السرطانات التي تظهر في الأعضاء الأخرى بالسرطانات الصُّلبة.
أما في الحالة الثانية (ظهور أثر التسمم في نسل الفرد المصاب) فلابد أن تكون المادة الوراثية في مناسل هذا الفرد قد تأثرت بفعل المواد الكيميائية المتراكمة, أي حدثت «طفرة» انتقلت مع النطفة (الحيوان المنوي من الرجل أو البُويضة من المرأة)، وبمشج (خلط) النطفتين معًا يتكون الزيجوت، وبهذا الصدد يقول الحق تبارك وتعالى في سورة الإنسان: “إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج….” سورة – الإنسان الآية (2) .
وإذا كانت المادة الوراثية لمورث (جين) معين تالفة في كل من النطفتين، وتلف هذا الجين يؤدي إلى الإصابة بمرض ما مثل السرطان، فإن الجنين المتكون في هذه الحالة سيكون مصابًا بهذا المرض.
أما إذا كانت إحدى النطفتين بها «الجين» المعطوب والنطفة الأخرى عادية فالجنين المتكون في هذه الحالة يكون لديه فقط الاستعداد أو القابلية للإصابة بالمرض، ويتوقف ذلك على الظروف البيئية التي تحيط بالجنين سواء قبل أو بعد الولادة.
ويجب التنويه هنا بأن خلايا المبيض تكون أشد تأثرًا من خلايا الخصية، والسبب هو أن خلايا المبيض ثابتة العدد منذ تكون الأنثى في رحم الأم، وعند البلوغ عادة ما تتحرر بُويضة واحدة مع كل دورة شهرية، وتستمر هذه العملية حتى انقطاع الطمث، وبعدها يصبح المبيض خاليًا من البويضات. وهذا يعني أن فرصة بقاء جزيئات المركبات الضارة في خلايا المبيض تكون مرتفعة.
أما في حالة الخصية فإن خلاياها (مراحل تكوين الحيوانات المنوية) في تجدد مستمر، وتستغرق كل دورة في الغالب 74 يومًا داخل الخصية، 14 يومًا أخرى في البربخ وذلك لإنضاج الحيوانات المنوية التي تكونت.
هذا من جانب، ومن جانب آخر يوجد ما يسمى بالحاجز الدموي للخصية الذي يمنع مرور بعض الجزيئات الضارة (السامة) التي يحملها الدم إلى الخصية، وبذلك لا تتاح الفرصة لتراكم جزيئات هذه المركبات.
وهنا قد يسأل القارئ:
· هل يقف الجسم صامتًا أمام الملوثات المختلفة التي تغزوه؟
الإجابة لا.. فهناك خطوط دفاعية منها المتخصص وغير المتخصص التي تواجه الملوثات والأجسام الغريبة التي تغزو الجسم وتتعامل معها وتدمرها، وهذا دور الجهاز المناعي بالجسم.
وإذا ما أخفقت هذه الخطوط في مهامها فالنتيجة هي إصابة الجسم ببعض الأمراض التي تختلف في نوعها وحدتها وأعراضها طبقًا لطبيعة المادة الغازية وتركيزها.
وإذا تمكنت بعض المواد من الوصول إلى خلايا بعض الأعضاء وتستقر فيها، عندئذ تنشط بعض العمليات الحيوية داخل الخلايا الهدف، ويكون أغلبها في صورة تفاعلات إنزيمية تؤدي في النهاية إلى إتلاف المواد الغريبة أو تحويل البعض منها إلى صور غير ضارة يسهل على الجسم التخلص منها.
وهذا جلي في الكبد الذي يعتبر أكبر معمل في الجسم، وهو العضو الأول الذي يستقبل النواتج النهائية للمواد الغذائية المختلفة التي تم هضمها وامتصاصها خلال القناة الهضمية.
ومن بين وظائف الكبد التعرف على المواد الغريبة التي تصل إليه خلال تيار الدم المحمل بالغذاء الممتص، ويبدأ في التعامل معها بآليات حيوية إنزيمية تؤدي في النهاية إلى إتلاف تلك المواد أو تحويلها إلى صور غير ضارة يستفيد الجسم منها أو يسهل عليه التخلص منها.
وفي حالة ارتفاع تركيز المواد «الغازية» أو مقاومة بعضها لفعل العمليات الحيوية فقطعًا ستكون هناك فرصة لتراكم جزء من هذه المواد داخل خلايا الكبد ذاتها ومرور جزء آخر مع تيار الدم إلى الأعضاء الحيوية الأخرى بالجسم مثل الكلى، وقد يحدث داخل تلك الأعضاء ما حدث في الكبد.
وفي بداية الأمر قد لا يصاحب الجزء المتراكم أي آثار ضارة ظاهرة، إلا أنه بمرور الوقت سيرتفع التركيز داخل الخلايا إلى أن يصل إلى الحد الضار الذي عنده تظهر المشكلات التي منها حدوث قصور في وظائف تلك الأعضاء، وقد يؤدي القصور إلى فشل الكلى كما هو الحال في الفشل الكلوي والفشل الكبدي الشائعين في أيامنا هذه.
· ولكن، ماذا عن المادة الوراثية في ظل هذه الأحداث؟
لقد أوجد الخالق جل شأنه آليات خاصة داخل الخلايا يتم عن طريقها إصلاح ما تلف من مادتها الوراثية.
وأثبتت البحوث المتنوعة أن المادة الوراثية في الكائنات الحية والممثلة بالحمض النووي هي الوحيدة التي لديها القدرة على الإصلاح الذاتي، وفي هذه الحالة يتم التخلص من الجزء التالف من «DNA» وإحلال جزء سليم مكانه.
وتتم هذه العملية في وجود إنزيمات عالية التخصص. وهذا يعنى أنه إذا حدث نوع من التسمم الوراثي نتيجة تركيزات طفيفة من مادة كيميائية معينة فمن الممكن للخلية المصابة (المسمَّمة) التخلص من هذا التسمم وذلك عن طريق «آليات الإصلاح الذاتي».
أما في حالة التركيزات المرتفعة من المادة الكيميائية فلن تعمل آليات الإصلاح (الإنزيمات) بكفاءة عالية، وتكون النتيجة ثبات التغيرات في مادة «د. ن. أ» على هيئة طفرات، ويتبع ذلك حدوث الاضطرابات، أي ظهور آثار التسمم الوراثي.
وفي الوقت الحالي، توجد تقنيات متعددة دقيقة يتم عن طريقها معرفة ما إذا كانت أي مادة كيميائية تدخل في تركيب مبيد أو سماد أو عقار معين لها تأثير مطفر أو عدمه قبل الشروع في استخدامها.
إن الإنسان بلا شك هو السلة التي تتجمع فيها بقايا المواد «المطفرة» من خلال السلسلة الغذائية، فهو يصنع هذه المواد ويستخدمها ويلوث بها التربة والمياه وأيضًا الهواء، وتنتقل بعد ذلك من التربة والمياه الملوثة إلى النبات والحيوان، ويأكل الإنسان والحيوان النباتات فيتناول الأول الخضراوات والفواكه والحبوب، ويتناول الثاني البرسيم والأعشاب ونباتات أخرى، ويشرب الاثنان المياه الملوثة ببقايا هذه «المطفرات».
وأخيرًا يأكل الإنسان الحيوان في صورة منتجات حيوانية مثل اللحوم والألبان والبيض والأغذية المحفوظة وكلها بها بقايا من هذه «المطفرات»، وتتراكم الأخيرة في خلاياه.
وإذا لم تكن هناك طريقة للتخلص من آثار هذه المواد على المادة الوراثية مثل «الإصلاح الذاتي لـ «د. ن. أ» فسيزداد تركيزها بمرور الوقت وسيئن الجينوم البشري (مجموع الجينات التي يتكون منها الإنسان) بالطفرات التي تؤدى إلى المزيد من الأضرار الجسدية والوراثية، ولا شك أن هذا له مردود سيئ على المجتمع بأكمله حيث ستتفشى الأمراض ويقل الإنتاج ويسود التخلف وسينخفض المستوى المعيشي إلى أدنى درجة.
وصدق قول الحق جل شأنه “ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون”– سورة الروم – الآية (41).
محيي الدين لبنية – استشاري تغذية علاجية