أصبح بإمكان العلماء الآن إنتاج أطنان من لحم غض لذيذ من الخميرة، تتذوقه فتحسبه أتى من أبقار ظلت سنوات ترعى أنضر المراعي، وتأكل أطيب الأعلاف.
فهل ستتخلى البشرية – مستقبلاً – عن لحوم الحيوانات، وتعيش على لحوم الخميرة، وأنواع أخرى من الميكروبات؟
غذاء يفوق اللحم
الباحثون يؤكدون أن لحوم الخميرة سوف تستعمل طعامًا على الأرض يومًا ما. فالأفواه التي تطلب طعامًا تتزايد حول العالم يومًا بعد يوم في الوقت الذي لا يمكن للحيوانات أن تفي بهذه الاحتياجات.
الخميرة إذن ستسهم في تخفيف وطأة هذا النقص، فهي غذاء يفوق اللحم، وأغنى مصدر معروف بفيتامينات المجموعة (ب)، وفيها من البروتين مالا يقل عن 50% من وزنها الجاف. وتنمو وتتكاثر بمعدلات فائقة السرعة، مما يهيئ المجال لإنتاج أطنان منها في ساعات قليلة وبكلفة محدودة.
فإذا كان تضاعف الكتلة الحيوية للعجول الصغيرة تتطلب وقتًا يتراوح بين شهرين وأربعة أشهر، فإن خلايا الخميرة تحتاج ساعتين أو أربع ساعات، لكي تتضاعف كتلتها الحيوية.
وفي حين أن حيوان يزن 1000 رطل ويأكل العشب ينتج رطلاً واحدًا من البروتين في اليوم، فإن القدر نفسه من الخميرة ينتج في اليوم، 50 ألف رطل. كما تمتاز بأنها تقدم منفعة ذات حدين: فهي تتيح مجالاً جديدًا لاستثمار النفايات، بتحويلها إلى بروتينات، كما تخلصنا من مواد مضرة للبيئة.
من الخمائر النفطية
وحتى يتمكن العلماء من إنتاج بروتين الخميرة وحيد الخلية، فإنهم في البداية يختارون السلالة المناسبة لعملية التخمير، لا تصلح كل أنواع الخميرة كغذاء يناسب البشر، فمن بين مئات الأنواع نجح عدد قليل واعتبر صالحًا لإنتاج البروتين.
هناك أنواع عدة، لديها قدرة على استخدام المكونات الشمعية الموجودة في النفط، كمصدر للطاقة اللازمة لعمليات الحياة، مثل خميرة (كانديدا تروبيكالس) وخميرة (كانديدا ليبوليتكا).
يتم وضع السلالة المناسبة في وعاء التخمير مع قدر من الماء الذي يحتوي على آثار من المعادن. ويوضع أيضًا الغذاء الأيدروكربوني، كمصدر للطاقة، ومصدر آخر للنيتروجين اللازم للنمو. كما يتم تزويد المفاعل بالهواء على الدوام لضمان حصول الخلايا على الأكسجين اللازم للتنفس والحياة.
بعد ذلك يكون كل شيء على ما يرام، فتنمو خلايا الخميرة وتتكاثر بسرعتها المعهودة، محولة مكونات البيئة إلى كتل خلوية ضخمة. وهذه تفصل بالترشيح، ثم بأجهزة الطرد المركزي، لنحصل على منتج غليظ، يغسل ثم يجفف على هيئة مسحوق، نحلله فنجد به أكثر من خمسين في المئة بروتينًا.
رائحة غير مستحبة
لقد لاحظ العلماء الذين عملوا على الخميرة في البداية أن المنتج البروتيني كان برائحة النفط، كما لم تكن تجارب السميّة التي أجروها عليه، سالبة تمامًا.
وقد ظل ذلك الأمر باعثًا على الأسى إلى أن نجح العلماء في التخلص من الرائحة النفطية، بإمرار هواء جاف بالمفاعل، كلما زوّدوا الخميرة بالأكسجين.
كما تم تطهير المنتج من مسببات السميّة المقلقة باستخدام مذيبات ومواد ناشرة مناسبة، من إزالة بقايا المشتقات النفطية والمركبات غير المتحللة العالقة بالمنتج البروتيني.
وقد كشف العالم الكيميائي (ألفريد شامبان) أن تحويل 3% من إنتاج النفط العالمي إلى بروتين خلوي، كفيل بمضاعفة الإنتاج العالمي من مصادر البروتين. كان هدف (شامبان) من بحوثه، سد الثغرة بين سرعة تزايد الحيوانات اللحمية، وسرعة تزايد الأفواه التي تطلب طعامًا، وأيّدته في ذلك سلالات من خميرة نفطية مدهشة.
بروتين في الميزان
عندما نتأمل في بروتينات الخميرة، نجد أن قيمتها الحيوية تقارب القيمة الحيوية لبروتينات فول الصويا أو الفول السوداني.
يحتوي بروتين الخميرة على أحماض أمينية أساسية، بنسب تماثل – وتفوق أحيانًا – النسب الموجودة في بروتين صفار البيض. كما يمتاز بروتين الخميرة عن صنوف البروتينات النباتية بوجود قدر واف من هذا الحمض الذي غالبًا ما يكون قليلاً في طعام الإنسان العادي.
نخلص من ذلك إلى أن بروتين الخميرة في ميزان التغذية، بروتين قيم وعظيم، ولكن نقصه في أحماض السستين والميثونين، هو الذي يستوجب التقوية والتدعيم. وقد ظلت هذه هي الوصية التي يوصيها باحثو التغذية، طوال السنوات الماضية. على أن مهندسي الوراثة تمكنوا من زيادة تركيز الأحماض الأمينية الحديّة (وهي الأحماض التي توجد في البروتين بتركيز متدن للغاية) بإزالة المركبات الطبيعية المعوقة لإنتاجها. ومن ثمَّ، فإن تطوير الخميرة لإنتاج بروتين أغنى في هذه الأحماض، لم يقلل كثيرًا الاحتياج إلى تدعيمه بمصدر آخر للأحماض.
الحذر من (RNA)
وبموازاة النواحي الإيجابية لبروتينات الخميرة، لكن في الوقت نفسه هناك بعض نواحي ضعف.
فعلى مدى سنوات طويلة، اهتم الباحثون بمشكلة ارتفاع مستوى الأحماض النووية، وخاصة الحمض النووي الريبوزي (RNA) في البروتينات الخلوية. وهذه الظاهرة متوقعة تمامًا، بحسبانها من الكائنات سريعة النمو والانقسام والبناء. وهذا يستلزم وجود قدر وافر من (RNA) وهي المسؤولة عن عملية البناء الخلوي.
تتراوح نسبة الأحماض النووية بين 8 – 25/100 جم بروتين خميرة. في حين لا تزيد في اللحوم الحمراء على 2%، وفي أسماك السالمون 2.2%، وفي الكبد 4%، وفي بطارخ الأسماك 5.7%. ووجد الباحثون أن قواعد البيورين التي تكوّن الأحماض النووية تتحول في الأبدان، أثناء عملية التمثيل الغذائي، إلى حامض البوليك.
وتصل نسبة حامض البوليك العادية في الدم إلى 1 – 3 ملغ/ 100 مل، وعندما يرتفع هذا الرقم إلى 4 – 6 ملغ/ 100 مل، يكون هذا نذيرًا بقرب حدوث نوبة النقرس، لدى المصابين.
وبالتالي حين يغتذي الإنسان بقدر وافر من بروتين الخميرة، يتولد في دمه كثير من حامض البوليك، ثم إن أملاح الحامض (اليورات) تترسب في جهات متعددة بالجسم، وبخاصة حول المفاصل وغضاريف الأذن.
وقد تتبلور الأملاح في البول، مكوّنة حصيات دقيقة في حوض الكلى لا تلبث أن تتحرك في البول مسببة آلامًا مبرحة، وقد تتجمع في المثانة وتستمر تتبلور حتى تتضخم الحصيات، ويغدو الخطر هائلاً.
ولهذا يوصي علماء التغذية بخفض كمية الأحماض النووية التي يحصل عليها الإنسان في غذائه اليومي، إلى الحد المأمون، وهو جرامان، ليس غير.
من ناحية ثانية، توصل كيميائيو الأغذية إلى ابتكار طرق لتخليص البروتين الخلوي من (RNA). منها طريقة تعتمد على الاستخلاص الكيميائي، وطريقة تعتمد على تحليل (RNA) بالإنزيمات، وثالثة تقوم على أساس حضن المنتج على درجة حرارة عالية، تعرف بالصدمة الحرارية Heat shock.. وكلها طرق ناجحة، بشرت بإمكان خفض مستوى الأحماض النووية.
د. فوزي الفيشاوي – أستاذ التغذية العلاجية