تناول وجبة استاكوزا قد يكون حدثًا استثنائيًا يصعب تكراره في حياة الكثيرين، فثمنها مرتفع للغاية لدرجة أنه حل لبعض المطاعم الفاخرة أن تشير إلى أنها طعام الأثرياء والمليارديرات.
بيوت للتوالد والنمو
لقد أجريت دراسة بيئية موسعة بهدف تهيئة بيئة مناسبة لتوالد ونمو الاستاكوزا في مياه ولاية فلوريدا الأمريكية لإغناء مصايد الاستاكوزا فيها، بعد تزايد الطلب عليها في المطاعم والأسواق الأمريكية والعالمية.
الدراسة تتبعت دورة حياة نوع من الاستاكوزا يسمى “الاستاكوزا الشوكية” يصل عدد البيض الذي تضعه الأنثى الواحدة منها إلى 40 ألف بيضة. تعطى البيضة عند فقسها كائنًا دقيقًا يبدأ جولة في المياه المحيطة بموطن آبائه تستمر لمدة عام كامل، يتعرض خلالها لعدد من عوامل الهلاك أهمها الافتراس، فهو يمثل بندًا أساسيًا في غذاء كائنات بحرية أخرى.. كما قد يقذف به بعيدًا عن البقعة الملائمة لتربيته فيلقى حتفه. ولا يجد طريقه إلى تلك البقعة إلا عدد قليل من اليرقات التي تبدأ في التحور إلى شكل يرقي جديد قريب الشبه بالحيوان الكامل، لا يأكل طوال فترة سعيه في المياه الشاطئية بحثًا عن مكان مناسب في القاع يحط عليه وينمو إلى الطور الكامل.
ولهذه الأسباب، برزت مشكلة تناقص محصول الاستاكوزا، فهي تحب القاع نظيفًا ومفروشًا بالحصى. ولكن النشاط الآدمي أفسده فغمره بالمخلفات وخبث الصرف الصحي، فهجرت الاستاكوزا المنطقة.
أظهرت التجارب إمكان جذب صغار الاستاكوزا إلى المواقع التي دمرها التلوث عندما تقام لها فيها مساكن خاصة تأوي إليها، وهي عبارة عن كتل أسمنتية صغيرة مثبتة على القاع. ويأمل العلماء أن يكون ذلك الحل مجديًا وتعود مصايد الاستاكوزا إلى سابق عهدها.
استاكوزا عنيفة
ويأمل العلماء في جامعة هارفارد، من خلال برنامج طموح للدراسات العصبية، أن يتمكنوا – بمساعدة الاستاكوزا – من الكشف عن الدوافع وراء بعض المشاعر والسلوكيات الآدمية، مثل الحب والعنف. وهم يرون في الاستاكوزا أفضل الكائنات التي يمكن أن تقوم بهذا الدور، لقدرتها على بلوغ منتهى العنف في سلوكها العدواني، بالإضافة إلى بساطة تكوين جهازها العصبي.
وأشارت أبحاث في هذا الصدد إلى أن مواد كيماوية کالهرمونات، هي التي تملي علينا متى وكيف نقوم بفعل ما، وأيضًا تحدد لنا أسلوب رد الفعل. فالأدرينالين، على سبيل المثال، يرتبط تركيزه في الدم بمدى استجابتنا للمواجهة أو تجنبها. كما أثبتت الدراسات أن القتلة ومقترفي جرائم العنف والمنتحرين يعانون من خلل في أيض السيروتونين. ولا تزال الكيفية التي تعمل بها هذه المواد داخل أجسامنا، فتغير من سلوكياتنا، محل اجتهادات. فهل ينجح هذا الكائن اللافقاري القشري في توضيح الصورة أمام العلماء؟
هرمونات الشراسة
لقد حقن الباحثون الاستاكوزا بكميات كبيرة من هرمونين تنتجهما بصورة طبيعية، هما السيروتونين والأوكتوبامين، بهدف إظهار التأثيرات المتعارضة للهرمونين على سلوك الاستاكوزا، فبعد الحقن بالهرمون الأول وارتفاع تركيزه في جسمها عن المعدل الطبيعي تتأهب الاستاكوزا للقتال، فتندفع مشرعة كلاباتها. وبعد أن تحقن بالثاني تتخاذل وتتراجع في استسلام. وأوضحت التجربة أن ما حدث لها في الحالتين هو نفس سلوكها في حالة القتال وأثناء التراجع.
وقد نجح العلماء في تحديد وعزل الخلايا العصبية التي تصب هذا الهورمون في دم الاستاكوزا عند استثارتها، وتوصلوا أيضًا إلى أن تلك الخلايا لا تعمل منفردة، بل هي جزء من دائرة تشبه الدائرة الكهربية لمصباح ذي مفتاح يتحكم في رفع أو خفض درجة الإضاءة تدريجيًا، فتبدأ الاستاكوزا في القتال بشكل طبيعي استجابة لأوامر الجهاز العصبي، وسرعان ما تنتج الخلايا هرمونها الذي يرفع من شدة الاستجابة، فتتصاعد شراسة الاستاكوزا. إذن، فالمستوى الطبيعي من السيروتونين في دم الاستاكوزا لا يتعدى دوره إعداد الحيوان للدفاع عن نفسه، فإذا تدخل عامل خارجي، تتابعت خطوات تؤدي إلى رفع تركيز هرمون الشراسة.
سلوكيات وأخلاقيات
واستكمالات للتجارب، ضم علماء هارفارد إليهم أحد علماء الأخلاق والسلوكيات، حيث قام بمراقبة أحواض تربية الاستاكوزا، وسجل في ملاحظاته أن السلوك العدواني للاستاكوزا يبدأ من آخر مرحلة يرقية في دورة حياتها، ويسكن صغار الاستاكوزا – في مختبر الدراسة الأخلاقية – كل في حوض منفصل، حماية لها من العنف المتبادل في القتال إذا اجتمعت في سكن مشترك.
وقد سجل العلماء تفاصيل الحرب بين صغار الاستاكوزا، وتبين أن ثمة اتفاقًا (غير مكتوب) على تجنب جرح الخصم إذا كان الجرح لن يحسم المعركة. فإذا تخاذل طرف وتراجع كان ذلك دعوة للخصم بأن يستخدم كلاباته كيف يشاء ليجهز على المستسلم. ويحاول الخاسر الفرار ولكن المنتصر يلاحقه بضرباته. ويصيب الاستاكوزا المنتصرة ما يشبه السعار وتظل تحقق انتصارات متوالية، حتى إذا كان الخصم أكبر منها.
وقد حول العلماء هذه المشاهد الفيلمية إلى بيانات رقمية، تسهم مع البيانات البيولوجية التي يحصلون عليها من تحليل دماء وأنسجة الخصمين المتقاتلين، في محاولة تفسير تأثير الهرمونات على سلوكيات الاستاكوزا.
بانتظار العلماء
ويستمر علماء البيولوجيا في خطط العمل مع الاستاكوزا، ومنها – مثلاً – تحديد مواقع خلايا الأوكتابومين والتعرف على نوعيتها.. وكيف تعمل، وهل هي مرتبطة بنظام إنتاج السيروتونين؟
هناك علامات استفهام عديدة لا تزال أمام العلماء تحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد. وليس علينا إلا انتظار البحث العلمي ليفسر الناس من خلال الاستاكوزا – لماذا يتحول البشر، دون سبب ظاهري واضح في كثير من الأحيان إلى العنف والقتل، وماذا فينا أو خارجنا، يصيبنا بتلك الحالة الشائعة التي نسميها الحب؟
ليأخذ العلماء وقتهم في صحبة “الاستاكوزا”. أما نحن، فيجب ألا نفلت فرصة تسنح لنا للجلوس إلى مائدة، الطبق الرئيسي فيها هو الاستاكوزا، أيًا كان سلوكها أو تصرفاتها.