أول الكلام
يقول الشاعر ابن مطرود:
«ودعت ناجح من مطار القريات
يوم أركبونا الطايرة وأشلعتنا
لو تنفجر قامت تذيع المحطات
رح عاد دور قشنا مع جثثنا»
عندما زرت محافظة القريات «بوابة الوطن» الواقعة على حدود المملكة في الشمال وبالتحديد بالقرب من الحدود مع المملكة الأردنية الهاشمية، استضافني صديق عزيز كريم في منزله ومزرعته الواقعة في وادي حصيدة الشرقي، وهو الآن من أهم الأودية هناك ويسمى به أكبر أحياء محافظة القريات القريبة من الوادي.
حينها قدم لي المنسف في وجبة العشاء, والمنسف عبارة عن لحم وأرز مطبوخ بطريقة خاصة مع اللبن ويضاف له مرقة مخلوطة بالجميد تكب كبا على الأرز ويكسو صحن الأرز من الأعلى صنوبر ولوز وبقدونس مقطع، ويوجد تحت الأرز شرائح من خبز الشراك.
كانت الوجبة لذيذة جدًا ودسمة لذا أكلت حتى استثقلت جسمي عند النهوض.
وخلال إقامتي في محافظة القريات، وفي شمال السعودية بشكل عام، كنت ضيف كرام فلا أكاد أجد يومًا للفراغ من شدة الارتباط بالولائم حتى خرجت من الشمال بكرشة صغيرة أو حبطه كما يسميها بعض أهل الجنوب.
ويعتبر المنسف من أشهر وجبات بادية الشام الواقعة بين سوريا والعراق والأردن وشمال السعودية, وأكثر من يشتهر بإعدادها أهل الأردن.
ويتميز المنسف عن باقي أنواع الكبسات العربية بوجود الجميد الذي يصنع من الحليب بعد تحويله إلى لبن رائب ويتم خض اللبن في عكة مصنوعة من جلد الماعز لفرز اللبن عن الزبد, بعد ذلك يؤخذ اللبن الناتج عن عملية الخض ويسخن حتى يتخثر ويوضع في وعاء من الشاش لمدة يوم على الأقل لتصفية الماء, ثم يضاف الملح له, بعد ذلك تأتي مرحلة التشكيل حيث تكون على راحة اليد.
وتعتبر مدينة الكرك التي تقع جنوب الأردن من المدن المشهورة بصناعة الجميد, لدرجة أن اسمها يطلق على الأصناف الجيدة منه.
وبعد عودتي إلى الرياض قال لي أحد الأصدقاء إن هناك مطعما في الرياض يقدم المنسف ويعتبر الوحيد في مدينة الرياض.
مباشرة ذهبت أنا وثلة من الأصدقاء عزمتهم على المنسف الذي حدثتهم عنه كثيرًا, لكن للأسف وجدت أن المطعم لم يفلح في صنع ذاك الطعم المميز الذي ذقته عند أهل القريات.
وللأسف أيضًا، حتى الأصدقاء الكرام لم يجاملوني في تناول المنسف وخرجوا من المطعم بفكرة سيئة عن المنسف وهو ما ساءني كثيرًا.
وأتذكر أن أول مرة سمعت فيها عن المنسف كانت من معلمي الأردني عندما كنت في المرحلة الثانوية, وكان يطريها كلما تحدثنا عن الأردن أو عن الطعام.
أما المرة الثانية فحدثت عندما كنت مغتربًا خارج الوطن، إذ واجهت هناك شابا سعوديا ينتمي إلى إحدى القبائل في شمال السعودية وبادية الشام, حينها كنا نتذكر الوجبات السعودية ومقدار شوقنا لها بعد أن أصابنا الجوع من تلك الوجبات التي تقدم لنا في بلاد الغربة.
كنت أمتدح عريكة أمي وهو يمدح لي منسف والدته السرحانية «نسبة إلى وادي السرحان الممتد من الأردن», وبعد ذاك الحوار اتفقنا على أن نجتمع في مكان إقامتي لطبخ الكبسة السعودية حيث لا نجيد غيرها, فلا أنا أجيد العريكة مثل أمي ولا صديقي الشمالي يجيد المنسف مثل أمه, فاكتفينا بشبه كبسة ملأنا بها بطوننا سدًا للجوع وحبًا للأصالة التي لا أتمنى أن تندثر بين أجيالنا خصوصًا بنات الأجيال القادمة.
حسن العمري
المقال منشور في النسخة الورقية من مجلة عالم الغذاء 2008م