الصحة والغذاء

بين «نعم» و«لا» معارك الشهية داخل الجسم

في وقت ما، وأنت بحضرة طعام شهي في مناسبة سعيدة قد يجد مخك نفسه حائرًا بين أوامر عدة  لكنها متناقضة:

فعقلك سيقول لك «لا لا لا»… أما نفسك وأصحاب الدعوة فسيلحون بإصرار: «بل نعم، ثم نعم، ثم نعم».. وهنا يتدخل عصب في بطنك ويحذر «لا لا لا».. ولكن هذا التحذير قد تصده إشارة قادمة من فمك تقول: «بل نعم، ثم نعم، ثم نعم».

وفي نهاية المطاف سيقرر مخك غالبًا اتخاذ قرار تنفيذي، فيأمر فمك أن يقول للمضيف «فطيرة… نعم من فضلك أعطني إياها».

هرمونات الشهية

ربما يعكس الحوار الخيالي السابق حقيقة ما توصل إليه العلماء مؤخرًا حول العوامل التي تتحكم في الشهية، حيث تم التوصل للكثير من الأدلة العلمية التي تؤكد أن هرمونات بعينها في الجسم تحرك الشهية، بينما تقوم هرمونات أخرى بتثبيط الشهية.

ودائمًا ما تكون الرغبة في تناول الطعام عبارة عن  تفاعل عجيب بين النفس وبيولوجيا الجسم والبيئة المحيطة، ويبدأ ذلك التفاعل قبل شراء الطعام بوقت طويل.

فإذا كنا جميعًا بحاجة إلى تناول الطعام بمقادير معينة، إلا أن أيًا منا إذا أكل أكثر من اللازم تعرض وزنه للزيادة. وفي المقابل، فإن للجسم نظامًا يعمل على المدى الطويل على التحكم في كمية الدهن الذي نخزنه.

ولكن قد يتصور بعضهم أن ذلك النظام قد لا يعمل جيدًا على الدوام… بينما يؤكد العلماء أن النظام في الواقع دقيق العمل جدًا في مقارنة ما يتم تناوله من السعرات وبين ما يحرق منه خلال أسبوع واحد أو أكثر، ثم محاولة الوصول إلى أفضل وزن ممكن. فبعضهم يزيد وزنهم بمعدل أكبر من غيرهم.

وبالنظر إلى التنوع الهائل في أطمعة الناس وعاداتهم الغذائية اليومية، فإنه من العجيب حقًا أن يتمكن هذا النظام من ضبط الميزانية الدهنية لكل إنسان.

التوازن في الجسم

لقد حدد العلماء هرمونين كبيرين، الأنسولين، واللبتين (Leptin) الذي اكتشف في التسعينيات.. وكلاهما يخبر المخ بكمية الدهن الذي يحمله الجسم. ولكن اتضح أنه عند معظم الناس أن هذا النظام أقدر على الوقاية من خسارة الوزن منه على اكتساب وزن زائد.

ويرجع السبب في ذلك إلى أن النظام نشأ في الجسم البشري في فترة كانت الناس فيها تعيش مراحل متلاحقة من المجاعات، وفي بيئة غذائية كهذه فإن الجسم يميل بطبيعته إلى الركون والسكون ما يعني مزيدًا من الدهن.

بدايتها نفسية

ويعتقد العلماء أن الرغبة بالاستمرار في تناول نوع معين من الطعام يأتي غالبًا من بادئات نفسية لا من إشارات بيولوجية تقول للجسم إنه يحتاج إلى الطاقة الفورية.

وبحدث تناول الطعام ليس لأن مستويات السكر في الدم تناقص أو تزيد، وإنما لأسباب أخرى، منها أن  تناول الطعام شيء يسهل عمله الآن، أو بعد انتهاء فترة الراحة من الوجبة السابقة، أو الشعور بأنه من الأفضل تناول الطعام لأن شخصًا ما أعده في هذا الوقت، أو أنه الموعد اليومي لتناول الطعام.

وقد يصعب على الكثيرين مقاومة عادات الإفراط في تناول الطعام.

وكما هو الحال مع أية وجبة، فإن الحصص الكبيرة من الطعام قد تشجع  على تناول المزيد.

وإذا كان هناك تشكيلة من الأطعمة فإن الشيء نفسه يحدث، ذلك أن الناس من عادتها أنها تمل من طعام واحد، في حين تكون على استعداد لتناول نوع آخر من الطعام بعده.

وتضرب باربرا رولز أستاذة التغذية في جامعة بين ستيت، مثالًا على ذلك بحفلة في إيطاليا اشتملت على 14 نوعًا من الطعام، وبعد فترة من تناول المعكرونة سئمت الضيوف وامتنعت عن تناول أي زيادة من المعكرونة، وفضلوا بدلًا من ذلك تناول الحلوى.

أوسطها هرمونية

ومع ذلك فإن «الرغبة والعادة» بالطبع لا تعملان وحدهما على ضبط الشهية.   فقد تبين أن الطعام الشهي يجعل خلايا المخ تطلق مركبات كيماوية تجعل الإنسان يشعر بأنه تلقى جزاءً جيدًا على عمل حسن، وهذا الشعور بالرضا قد يبعد الشعور بالشبع، ونتيجة ذلك هي تناول المزيد من الطعام.

ثم هناك هرمون (Ghrelin) الذي ينتج معظمه في المعدة وترتفع مستوياته في الدم قبل كل وجبة، وتبلغ ذروتها عندما يرفع الإنسان أول مضغة إلى فمه، وهو ما يعمل على إثارة الشهية.

وآخرها إشارات عصبية

وبينما يأكل الإنسان، يبدأ الجسم حملة منظمة من أجل التوقف عن تناول الطعام.

فهناك تركيبات نسيجية صغيرة داخل البطن تستشعر أن هذا العضو بدأ في التوسع فترسل رسائل قريبة إلى العصب الجوال أو التائه (vagus nerve) الممتد عبر النخاع العصبي.

وفي ذات الوقت يتلقى العصب الجوال تعليمات من هرمون (Cholescystokinin) الموجود بالأمعاء الدقيقة تفيد بضرورة التوقف عن تناول الطعام.

ثم إن هنالك على الأقل خمسة مركبات أخرى تفرز من الأمعاء الدقيقة تؤكد نفس الموقف: واحدة منها مثبطة عن الأكل هو الهرمون (PYY3-36) الذي يصب في الدم فيذهب إلى المخ مباشرة، وكأنه يريد التأكد من أن الأوامر لا تضيع في الطريق.

وتزامنًا مع كل إشارات الشبع تلك قد تظن أن المخ قد فهم القضية وسيتصرف سريعًا. ولكن الواقع أن هذه الأوامر تمارس ضغطًا فقط على المخ، فمهما وصلت من إشارات، فبمجرد أحضار فطيرة شهية فإن الشخص قد يقنع نفسه من جديد أنه جائع، خصوصًا إذا كانت الفطيرة محلاة بمشهيات يصعب مقاومتها.

الجسم تعود

وعلى كل حال فسوف يتم في النهاية التوقف عن تناول الطعام. ففي مرحلة معينة، تبلغ الإشارات الواصلة من القوة بحيث تجبر الشخص على التوقف رضوخًا في الغالب لما تعود عليه من كمية طعام أو حصص طعام. والمقصود بذلك أن الناس تعتاد (نفسيًا وهرمونيًا) على حجم معين من الطعام الذي أرضاهم في السابق.

وهكذا يظل السمين راغبًا في أن يأكل الكثير من الطعام والعكس صحيح. ويحافظ الجسم على هذا المقدار المتوازن من الدهون عن طريق هرموني ليبتين وأنسولين، فإذا زاد مخزون الدهون عن الحد المعتاد، فإن مستوياتهما ترتفع مما يسهل على المخ سماع إشارات الشبع فيقل تبعًا لذلك المقدار المتناول من الطعام في المرة القادمة.

أما إذا كان وزن الجسم أقل من المعتاد، فإن انخفاض مستوى هذين الهرمونين في الدم كفيل بأن يجعل المرء يتناول المزيد من الطعام.

الدور على الأدوية

وفي الوقت الذي يقول العلماء بأنهم لا زال أمامهم الكثير مما يجب معرفته عن كيفية سيطرة الجسم على الجوع والشبع، فإنهم متفائلون بأن ما توصلوا إليه حتى الآن قد أظهر أهدافًا حيوية بإمكان الأدوية أن تستهدفها من أجل تمكين الناس من أن تخسر من أوزانها الزائدة.

على سبيل المثال إذا كان ذوو السمنة يزداد عندهم هرمون ليبتين المثبط للشهية، فمن الممكن إنتاج أدوية تجعل المخ أكثر حساسية للإشارات التي يحاول هذا الهرمون إرسالها.

كما يمكن للعلماء تغيير الإشارات الكيماوية في المخ التي تحث على الطعام أو الامتناع عنه، وهنا يعتبر هرمونا غريلين و(PYY3-36) من المرشحات الأولى للعب مثل هذا الدور.. ورغم كل ذلك فإن محاولات الحد من الشهية لا زالت في مراحلها الأولية.

باربرا رولز (Barbara Rolls)

أستاذة التغذية، جامعة بين ستيت

تابعنا

تابع الصحة والغذاء على مختلف منصات التواصل الاجتماعي

الصحة والغذاء إحدى بوابات دار   دار اليوم