أحبها البعض لحلاوة طعمها وطيب رائحتها وارتفاع قيمتها الغذائية، بينما امتنع آخرون عن تناولها لعدم معرفتهم بمصدرها وغرابتها لهم.
إنها ثمار الكمأة أو الفقع (Truffles)، التي قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين).
والكمأة هي نوع من البروتين يخرج من بين رمال الصحراء، وهو أحد أنواع المن التي أنعم الله بها على البشرية.
المن والسلوى
والمن هو كل شيء ينبت من غير تكلف وجهد من الإنسان سواء كان هذا الجهد تمهيدًا للأرض أو بذرًا للبذور أو ريًا أو رعاية.
قال الأصفهاني: أما المن في قوله تعالى: “وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى..” (سورة البقرة – 57)، فقد قيل: المن شيء كالطل فيه حلاوة يسقط على الشجر، والسلوى: طائر. وقيل: المن والسلوى: كلاهما إشارة إلى ما أنعم الله به على الناس، وهما بالذات شيء واحد لكن الله سماه منا حيث إنه امتن به عليهم، وسماه سلوى من حيث إنه كان لهم به التَسَليَ.
وقد عرفت الكمأة منذ عهد قدماء المصريين واليونانيين والأفارقة والأوروبيين والهنود الحمر والآسيويين، وتعني كلمة كمأة الشيء المستتر. ويطلق عليها أيضًا اسم الفجع أو الفقع (جمع فقعة) في بعض مناطق الخليج والجزيرة العربية.
ويطلق عليها البعض كذلك اسم بطاطا الصحراء، أو جدري الأرض أو بنت الرعد؛ لأنها تظهر عقب هطول المطر وبعد حدوث الرعد والبرق بمدة قصيرة.
والكمأة من أغلى المنتجات الطبيعية الناتجة من بيئة الصحراء حيث يباع الكيلوجرام الواحد من الأصناف المتميزة بثمن عشرة كيلوجرامات من اللحم الضاني.
ويتهافت البعض خاصة في الصحراء العربية في بلاد الخليج، والمشرق العربي إلى الخروج في رحلات إلى الصحاري والمحميات الطبيعية لجمع الكمأة، مع حلول موسمه الذي يبدأ عادة أواخر شهر يناير، ويستمر حتى نهاية فبراير، ويمتد أحيانًا إلى شهر مارس.
ويرجع الاهتمام العالمي بالكمأة إلى ندرتها، وكذلك إلى قيمتها الغذائية العالية؛ حيث ونجد في بعض أنواعها الناتجة من الصحراء السعودية أن 27.20% من وزنها بروتين، 7.40% دهن، 13% ألياف، 5.4% رماد. وتحتوى على كميات جيدة من الأحماض الدهنية الأساسية وحمض الأسكوربيك، والثيامين (ب1)، والريبوفيلافين (ب2)، والنياسين (ب3) والبوتاسيوم والكالسيوم والماغنيسيوم والزنك والنحاس والحديد والمنجنيز.
من هنا كانت الكمأة كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم من المن الذي من الله به على عباده دون زرع وسقي وفلاحة وقد ثبت أنها تحتوي على مضادات الحيوية لذلك كان ماؤها شفاء للعين كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم.
سر نمو الكمأة
وقد حار الناس في كيفية نمو فطر الكمأة، وتعجبوا من خروج أغنى أنواع البروتين على هيئة كتل لينة حلوة الطعم من بين رمال الصحراء القاحلة.
وفي تعجبهم وحيرتهم ما يبرره، وفي توضيح طريقة نمو الكمأة تتجلى عظمة الخالق، وعظيم صنعه.
فالكمأة هي أحد أجناس الفطريات الزقية (Ascomycota). وتتميز الفطريات الزقية بأن تكاثرها الجنسي يعطي ثماني جراثيم زقية داخل تراكيب تشبه القربة أو الزق تتجمع في تركيب ثمري زقي يأخذ العديد من الأشكال منها المغلق الدائري تمامًا ومنها المفتوح قليلاً، ومنها المفتوح تمامًا.
وتوجد الجراثيم الزقية داخل ثمرة الفقع التي نأكلها، وهذه الجراثيم تظل في الصحراء دون نمو إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى بنزول المطر وحدوث البرق ونزول بعض المركبات النيتروجينية المثبتة بالشرارة الكهربائية في الجو فتبدأ بذور وحبوب بعض النباتات الزهرية الحولية في الإنبات، وتفرز هذه النبات الزهرية بعض المستخلصات الجذرية في التربة المحيطة بها، فتنبه جراثيم الكمأة وتستحثها على الإنبات فتنبت تلك الجراثيم أحادية المجموعة الصبغية وتعطي الخيوط الفطرية موجبة النوع والخيوط الفطرية سالبة النوع ليعطي في النهاية الجسم الثمري الذي ينمو ويتضخم تحت سطح التربة معطياً الكمأة التي نأكلها.
وتكون الكمأة مع بعض النباتات الزهرية المتكافلة معها علاقة تبادل منفعة في تركيب جذري يسمى الميكورايزا؛ حيث يقوم النبات الزهري بإمداد الفطر بالمواد الغذائية الناتجة من البناء الضوئي كالمواد الكربوهدراتية والدهنية، ويقوم الفطر بخدمة النبات الزهري بتوسيع شبكة الشعيرات الجذرية الامتصاصية الفطرية التي تعوض النبات الزهري عن شعيراته الجذرية التي لم تستطع أن تتكون في ظروف الصحراء القاحلة، وبذلك يساعد الفطر النبات على امتصاص الماء والمواد الغذائية المعدنية من التربة التي فتتها وحللها وأذابها الفطر بأحماضه القوية كما يحلل الفطر المواد السامة في التربة ويحمي النبات الزهري من آثارها المميتة. ومن النباتات الزهرية المتكافلة مع فطرة الكمأة: الحندقوق، والشيح، ولسان الحمل، والليبيم، والأرقة.
ويجود فطر الكمأة في المحيط الجذري والبيئة المحيطة بتلك الأجناس من النباتات الزهرية، لأن هذه النباتات الزهرية تفرز عصارات محفزة لإنبات جراثيم الفطر وتساعدها على التغذية والنمو والتكاثر كما سبق.
وبذلك يكون الله سبحانه وتعالى قد سخر هذه الفطريات الزقية لخدمة البشرية، ومن عليها حيث يتم إنتاج كميات هائلة تقدر بالأطنان منها في الصحراء القاحلة، وما تبقى في الصحراء دون جمع يصبح مصدرا للجراثيم للأعوام القادمة. لذلك نحذر من الجمع الجائر لتلك الفطريات، وعلى الدول العربية والإسلامية أن تنظم جمع هذه الفطريات وتعتني بأماكن تجمعها ونموها.
كما سخر الله سبحانه وتعالى النباتات الزهرية المكافلة مع الفطر للإمداده بالمواد الغذائية، وسخر الفطر لخدمة النبات الزهري، وسخرهما معًا لخدمة الإنسان.
وهناك العديد من الدراسات التي أدت إلى نتائج إيجابية لزراعة الكمأة في صوب زراعية، وفي مختبرات ومعامل مهيأة لذلك، فسبحان من سخر هذه المخلوقات الصغيرة للعيش في الصحراء القاحلة وتحويل محتواها الميت إلى هذه الكمأة الحية “الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6)” سورة طـه، والكمأة من الكائنات الحية تحت الثرى.
د. نظمي خليل أبو العطا – أستاذ الفلسفة في العلوم (نبات)