نظم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حياته تنظيمًا دقيقًا فانعكس هذا على نظامه الغذائي، فلم يكن يجلس في بيته متكاسلاً ولا آمرًا من حوله بأن يكونوا في خدمته، بل كان نشيطًا يخدم نفسه بنفسه، وكان في بيته في مهنة أهله (أي في عمل أهله) ينظف أثوابها ويرقعها إذا كانت تحتاج إلى الترقيع ويحلب شاته ويخصف نعله، ويَقُمُّ البيت (أي يكنس قمامته وينظفه) ويعقل البعير، ويعلفها، ويأكل مع الخادم، ويعجن معها، ويحمل بضاعته من السوق، وربما بان الجوع عليه، فتقول عائشة مشفقة عليه: “نفسي لك فداء. لو تبلغت من الدنيا بما يقوتك”. فيقول:” يا عائشة مالي وللدنيا، إخواني من أولى العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم، فقدموا على ربهم فأكرم مآبهم، وأجزل ثوابهم، فأجدني استحي إن ترفهت في معيشتي أن يُقصَّر بي غدا دونهم (أكون أقل منهم) وما من شيء هو أحب إلى من اللحوق بإخواني وأخلائي”. وتعطيه السيدة عائشة كوبًا من الماء فيشربه على ثلاث مرات يسمي الله إذا بدأ وبحمده إذا قطع، وفي رواية” كان يستاك عرضا ويشرب مصًا”.
فمن هدى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في شرب الماء أنه كان يمصه مصًا ولا يعب الماء عبًا، وعب الماء هو شربه مع الهواء، ودخول الهواء إلى المعدة يسبب آلامًا وانتفاخًا في البطن، ويعوق حركة المعدة، مما يجعل هضم الطعام صعبًا، أما مص الماء بجعل الشفة ملاصقة لسطح الماء، فإن ذلك يمنع دخول الهواء إلى المعدة. وكان – صلى الله عليه وسلم – يشرب على ثلاث فترات، ويتنفس خلالها خارج الإناء وليس داخله، وذلك حتى يتمكن من مص الماء دون أن ينفخ أو يتنفس داخل الإناء أو وقت الشرب، والنفس داخل الإناء أو أثناء الشرب أمر في غاية الخطورة حيث قد يدخل الماء إلى الجهاز التنفسي مسببًا الاختناق، ولم يشرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الماء أثناء تناول الطعام أو بعده مباشرة، لأن شرب الماء بكميات كبيرة أثناء الطعام ضار جدًا، إذ إنه يخفف العصارة المعدية وبالتالي لا يَهضم الطعام، كما أنه يعوق حركة الطعام في الأمعاء، وأن شرب الماء المثلج أثناء وجبات الطعام في الأيام الحارة، عادة ضارة بالجسم، فهي كثيرًا ما تؤثر في عملية الهضم – إن آجلاً أو عاجلاً- تأثيرًا ضارًا، فالماء المثلج يعوق إفرازات المعدة ويؤخر الهضم، كما أنه يسبب التهابًا في الغشاء المبطن للمعدة، وإذا كان ذلك يسيء للمعدة السليمة فما بالك بالمعدة الضعيفة.
وشراب النبي – صلى الله عليه وسلم – كان متنوعًا، فبخلاف اللبن والعسل كان يشرب العصائر مثل عصير العنب، وعصير البلح قبل أن يتغيرا إلى الإسكار، فالعنب يقلل من نسبة حمض البوليك في الدم وكثرة وجود هذا الحمض تسبب آلاما شديدة في المفاصل وتراكمها في الكلية يسبب وجود الحصى، ويعتبر العنب غذاء مفيدًا حيث يحتوي على نسبة عالية من المواد السكرية حيث تبلغ قيمتها 15% وكميات من فيتامين أ، ب، ج، لذا فهو ينفع في حالات فقر الدم، والإرهاق، ودور النقاهة، ونقص أو سوء التغذية، واضطرابات الكبد والطحال. كما يستعمل عصير العنب لغسل الوجه وترطيبه، وذلك بمسح الوجه باستخدام قطعة من القطن بعد غمسها في العصير، ثم يترك الوجه مبللاً بالعصير لمدة عشر دقائق حتى يجف، ثم يغسل بماء فاتر مع قليل من بيكربونات الصوديوم. ويستخدم عصير العنب كمادة منفثة طاردة للبلغم في أمراض الصدر. ومغلي أوراق العنب له خاصية إدرار البول، كما يحتوي على مادة قابضة، لذا يمكن استخدامه في حالات الدوسنتاريا، كما أن العنب يستخدم كمادة مسهلة وملينة كما في حالات الإمساك وعسر الهضم.
وبالرغم من أن رسولنا الكريم كان زاهدًا في الحياة، فإنه لم يترفع أو يتعالى عما أحل الله من أطايب الطعام، فقد كان جامعة للآداب والأخلاق الكريمة، ومدرسة في السلوك القويم، ومنهاج حياة في كل حركة يتحركها وفي كل كلمة ينطقها، لذا لا نجده يرد طيبًا ولا يتكلفه، بل كان هَديهِ أكل ما تَيَسر، فإن لم يجد صبر، وكان معظم طعامه يوضع على السفر، فكانت مائدته، وكان لا يأكل متكئًا، وكان يسمي الله تعالى في أول طعامه، ويحمده في آخره.. وكان يأكل بأصابعه الثلاث، ويغسل يده قبل الأكل، وإذا فرغ من طعامه مسح يديه وغسلهما، وكان أكثر شرابه قاعدًا، ويأكل بيمينه، ويشرب بيمينه ويحث على ذلك، ولم يأكل رسول الله طعامًا ساخنًا طوال حياته إلا مرة واحدة تقريبًا فقد روى الطبراني في الصغير والأوسط من حديث بلال بن أبي هريرة عن أبيه: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أتي بصفحة “طبق” تفور: فقال إن الله لم يطعمنا نارًا، فكان ينتظر الطعام حتى يبرد ولا ينفخ فيه، وقد نهى عن النفخ في الطعام أو الشراب، وذلك لأن الفم والأنف يحتويان على كميات لا حصر لها من الميكروبات التي قد تصيب الطعام أو الشراب إذا نفخ فيه، وبذلك تنتقل العدوى إلى الإنسان، ويصاب بأمراض كثيرة، وتعتبر هذه واحدة من أفضل الإرشادات النبوية في الطب الوقائي.
إن الرحلة مع النظام الغذائي النبوي طويلة ويغمرها الأدب النبوي القائم على هدي المصطفى، صلوات الله وسلامه عليه، فكان يتناول ثلاث وجبات في اليوم وهو ما يعده الطب الحديث أفضل نظام غذائي للجسم، والفترة بين الوجبتين لا تقل عن أربع أو خمس ساعات، وهي تقريبًا المدة الضرورية لهضم الطعام في المعدة، كما كان طعامه يتكون من المكونات الرئيسية وهي البروتينات، والنشويات، والدهنيات، والفيتامينات، والأملاح، وكان طعامه متوازنًا، فإذا كانت بعض الأنواع حامضية، يعادلها بطعام آخر قلوي.
هكذا كان النظام النبوي في الغذاء أحق بالاتباع من النظم الغذائية الأخرى، التي تقوم على الحرمان من الطعام أو تناول الكيماويات، لأن الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم- قال: “عودوا كل بدن ما عتاد”. ودعا إلى النشاط والحركة والرياضة، ثم الأكل المتوازن الذي لا يضغط على أعضاء الجسم أو تكون سببًا في المرض لأن المعدة بيت الداء والوقاية خير دواء.
أ.د. نبيل سليم علي