الإنسان هو جوهر الحياة وصانع ثقافته وباني صرح حضارته ومدنيته، وإن حياة الجنس البشري ليست محدودة ببداية ونهاية وإنما هو اتصال واستمرار، وإن كل إنسان منا هو في حقيقة الأمر جسر بين ماض قادم من الأزل وبين حاضر ذاهب إليه، ومن خلال ترحاله عبر عصور التاريخ عليه أن يأخذ من ثمار تراثه الماضي الشهي وبذورها الحية المرضية ليزرعها في حقل حاضره، ويرعاها لتظهر ثمارًا أشهى وأثمن قيمة لتمثل زاد جيله الصغير وهو على عتبة المستقبل.
إن هذه الرحلة الطويلة تحتاج إلى زاد يستطيع به التفكير وتدبر الأمور، ومن زاده يستطيع أخذ القرار ليسير مشواره آمنًا مطمئنًا، ويكون أيضًا نافعًا للغير ومضحيًا لأجل بلده وأهله وعشيرته وأبناء جيله.
عملية البناء تحتاج إلى تغذية، والحكمة القائلة العقل السليم في الجسم السليم هي صحيحة، والتغذية السليمة والصحية لها شروط ومعايير لكي يكون عائدها بنيانًا سليمًا وصحيًا، وأي إخلال بالشروط والمعايير يصيب البنيان عطب وأمراض.
تغذية الإنسان لها شقان
وتغذية الإنسان لها شقان: الشق الأول من التغذية يقوم بها الجهاز الهضمي، ومكونات هذه التغذية من الأطعمة والغذاء الذي يدخل عن طريق الفم إلى الجهاز الهضمي الذي يتم فيه هضم الغذاء وامتصاصه في صورة أحماض أمينية وأحماض دهنية وجلوكوز يتم تمثيلها لتكون الخلايا والأنسجة وتشكل الأعضاء وتعوض الفاقد من الخلايا إلى غير ذلك مما هو معروف في علم التغذية وبيولوجيا الجسم..
ما هي الوجبة المتكاملة؟
وشروط التغذية السليمة والصحية أن تتضمن عناصر خمسة أساسية تشكل الوجبة المتكاملة وهي:
البروتين، الكربوهيدرات، الدهون، الأملاح المعدنية والفيتامينات، وأي نقص في تلك المكونات إما كمًا أو تمامًا يؤدي إلى أمراض سوء التغذية Mal-nutrition.
والشق الثاني: أو النوع الثاني من التغذية موجه إلى الجهاز العصبي المركزي للإنسان، وهذا النوع من التغذية يعرف بالتغذية المعلوماتية knowpedge- feeding ومداخلها إلى المخ البشري عن طريق الحواس الخمس: البصر- السمع- الذوق- الشم- اللمس.
حيث تصنف المعلومات الوافدة من البيئة والعالم المحيط بالإنسان حسب الحاسة المسئولة، فتوجد معلومة بصرية وسمعية وشمية ولمسية وحسية، وقد تشترك أكثر من حاسة في حمل معلومة أو أكثر عن طريق عصب لكل حاسة.
تغذية المخ
والمعلومة هي مثير خارجي يتم تحويلها أو تشفيرها إلى لغة المخ والتي تعمل رسالة معلوماتية. ولهذا النوع من التغذية شروط ومعايير أيضًا، حيث تكون الوجبة المعلوماتية من عناصر أساسية تجهز في المخ البشري يتم فيه تشغيلها (هضم وامتصاص) لتتحول إلى معلومة يعبر عنها بسلوك، أي أن المعلومة مهما كان مصدرها ونوعها يتم تشغيلها وتتحول في النهاية إلى سلوك، وإن نقصت الوجبة من أي عنصر من العناصر الأساسية يؤدي هذا النقص إلى أمراض سوء السلوك mal-behavior.
التغذية الوافدة!..
وللتغذية المعلوماتية مصدران: الأول هو الثقافة وما تضمنته من عادات وتقاليد وأنماط سلوك ولغة وقيم.. إلخ، والتغذية الوافدة من مصادر الإعلام المتنوعة (مقروءة ومسموعة ومشاهدة) وهذا النوع يطلق عليه التغذية غير المقصودة.
أما المصدر الثاني للتغذية المعلوماتية فيطلق عليها: التغذية المعلوماتية المقصودة/ المخططة، وفيها تتم التغذية وفهم مخطط مدروس ومنهج هادف من قبل المؤسسة التعليمية لتخريج جيل سوي وسليم.
وكلا النوعين من التغذية مهم للغاية في بناء التفكير والسلوك وإصدار القرار الصائب السليم.
كما يجب تشكيل الوجبة المعلوماتية من عناصرها الأساسية: (المعرفية، والوجدانية، والنفس حركية أي المهارات) وأي نقص في تلك العناصر يجعل الإنسان إما ضحل المعلومات وضحل التفكير أو بلا قيم أو ضمير أو ينقصه المهارات العقلية، أو المهارات التي يتناول فيها الأشياء في مهنته.
تخطيط الوجبة المعلوماتية
إن تخطيط الوجبة المعلوماتية المقدمة للفرد تحتاج إلى إعداد مثل (طهي الطعام ليلائم طبيعة الجهاز الهضمي). وتقديمه بما يلائم طبيعة واستعداد النمو العقلي والنفس للفرد. ومن ثم تحتاج إلى استراتيجيات تدريس وطرق وأساليب ومداخل.
هذه الاستراتيجيات تقوم بمعالجة البيانات لتصير قابلة للهضم في المخ البشري وسهلة التشغيل بواسطة المهارات والقدرات العقلية (التي تقوم مقام الأنزيمات الهاضمة في التغذية).
كما أن تلك الاستراتيجيات تنمي المهارات والقدرات العقلية لتصير صالحة في تشغيل البيانات لتحول إلى معلومات ومعرفة في صورة مفاهيم، تعميمات وقوانين أو قواعد ونظريات.
وتخطيط المعلومات أو المناهج وكذا تقديمها أو تعليمها وتدريسها لها فنيات متخصصة حتى تصير الوجبة المعلوماتية صحية لبناء الإنسان وتفكيره وسلوكه.
وتخزين المعلومات في صورتها النهائية في صورة خرائط مفاهيم في المخ البشري يسترجع منها المناسب والملائم على وقف المشكلة التي تواجهه إلى الحلول للمشكلات.
وإن أي قصور في الإعداد والتقديم لتلك المعلومات يصيب الفرد بأمراض عصابية تندرج في القلق إلى المخاوف إلى الهستيريا إلى العصاب القهري ثم إلى أمراض نهائية مثل الاكتئاب والبارانويا والشيزوفيرينيا.
كما توجد أمراض أو شوائب تصيب الوجبة المعلوماتية والبنية المعرفية بأمراض في صورة تلوث معلومات، وهذا التلوث يصيب التفكير والسلوك والقرار، التي هي مخرجات المعلومات المدخلة بعد تشغيلها وتلك الملوثات التي تصيب التفكير والسلوك والقرار راجعة إلى نقص إعداد المعلومات وتقديمها بحيث نتج عن هذا القصور عدم نماء المهارات والقدرات العقلية التي تستطيع فرز وانتقاء الصحيح والسليم من الخاطئ والضار.
تلك المهارات والقدرات تشكل نماذج التفكير مثل التفكير الناقد والتفكير العقلاني والتفكير الإبداعي والتفكير المتعدد.
ملوثات البيئة وأثرها في المخ
كما أن أمراض التفكير والسلوك تنتج من ملوثات البيئة في صورة مبيدات وغازات، وهذه لها تأثير خطير في موت المناطق الإنسانية في القشرة المخية للإنسان.
وأخيرًا فإن إعداد الوجبة المعلوماتية وتقديمها للتعلم تختلف حسب توجيهها ونوعها إلى طبيعة المخ البشري.
ونمو التفكير يمر بمراحل: تفكير حاس (يستخدم الحواس) ثم تفكير إدراكي وتخيل وفي قمة الهرم التفكير.
ومن ثم يجب عند تقديم الوجبة المعلوماتية في الدرس أو المحاضرة أن تمر بتلك المراحل في ترتيبها الهرمي حتى يتم نمو التفكير السليم المؤدي إلى فكر سليم.
إعداد: د. أميمة جادو