يمكن القول إن العصر الحالي هو العصر «الذهبي» للمطبخ ووسائل الطبخ؛ فقد شهد ابتكارات واختراعات مطبخية عديدة أسهمت في الارتقاء بمهام العمل داخل المطبخ واختصار الجهد والوقت المطلوبين للحصول على طعام صحي.
ترى كيف كانت أمهاتنا وجداتنا تجهزن أكلاتهن في ظل الوسائل البدائية التي كانت متاحة لهن، وهل استطاع البريق المعاصر الذي طرأ على المطبخ وأدواته أن يخفف من معانتهن، أم ما زال الحنين إلى وسائل الطبخ أيام زمان يحتل مكانًا في نفوسهن؟
التحقيق التالي يجيب عن هذه الأسئلة وغيرها..
دكة اللبن
التقيت داخل القسم النسائي بمركز الأمير سلمان الاجتماعي مجموعة من السيدات اللاتي عاصرن فترة ما قبل الطفرة الاقتصادية للحديث معهن حول شكل المطبخ وأدوات الطبخ التي كانت متوفرة آنذاك.
في البداية حدثتنا نورة م قائلة إن شكل المطبخ في الوقت الحاضر اختلف كثيرًا عن أيام زمان سواء من ناحية البناء أو التصميم أو الأدوات المستعملة فيه.
فقد كان المطبخ متواضعًا بشكل كبير مقارنة بالمظاهر التي نشاهدها في المطبخ الحديث اليوم؛ حيث كان يبنى من الطوب اللبن في بعض مناطق المملكة، وكان الموقد في أيامنا عبارة عن دكة مصنوعة من الطوب اللبن لها فتحتان من أعلى توضع القدور عليها وتضرم فيها النار من أسفل.
أما وقود هذه الدكة فكان يتمثل في سعف النخيل الذي كان يجمع ويكسر قطعًا صغيرة ثم يلف بالخيش وتضرم فيه النار. وكان الطبخ يتطلب وقتًا طويلًا حتى ينضج الطعام.
وأكدت حجم المعاناة التي كانت تتكبدها المرأة في الطبخ أيام زمان، مشيرة إلى أن المطبخ لم يكن ظليلاً كما هو الحال الآن؛ فقد كان عبارة عن أعمدة مبنية من الطوب اللبن ومعروشة ببعض عروق الشجر وسعف النخيل وكانت المرأة تقضي معظم أوقات الطبخ رائحة وغادية تحت أشعة الشمس الحارقة.
علية ع تشير من جانبها إلى أن الحصول على وقود النار كان يمثل معاناة كبيرة للمرأة خاصة التي تعيش في منطقة الجنوب؛ فقد كانت تتجه صوب الجبال والأماكن البعيدة المشجرة وتقوم بتقطيع فروع الأشجار وسيقانها للحصول على الحطب واستخدامه وقودًا للطبخ.
أما ليلى س فذكرت أن شكل المطبخ السعودي وأدواته مرت بمراحل كثيرة خاصة في الفترة التي سبقت استخدام الغاز؛ فقد كان مقر المطبخ في بعض المناطق «تحت بيت الدرج» وكان قدر الطعام يوضع على ثلاث حصيات كبيرة وتضرم النار تحته في جذوع النخل وسعفه وفروع الأشجار. كما استعملت المرأة الكولة (الوابور النحاسي) الذي يعبأ بالجاز وكانت تنظفه وتقوم بنفخه بالمنفاخ فلم تكن هناك خادمات وكانت المرأة تعتمد على نفسها في تنظيف المطبخ ووسائله المختلفة.
الملالة والشقوة
وعلى بساطة تصميم وشكل المطبخ آنذاك، تميزت أدوات ومعدات المطبخ بالبساطة أيضًا.
تقول نورا إن قدور الطبخ قديمًا كانت كبيرة وتصنع في الغالب من النحاس والمعدن الثقيل، ولم تعرف النساء قدور الضغط والقدور البخارية. وكانت المغارف المصنوعة من الخشب تستخدم لغرف الطعام من القدور، أما الملاحس فكانت تستخدم لغرف الأرز.
وتشيرنورةإلى أن المرأة كانت تصنع معظم أدوات المطبخ بيديها مثل البيز التي كانت تستخدم في حمل القدور الساخنة والسفرة التي كانت تصنع من الخوص. ولم يعرف المطبخ قديمًا الملاعق والشوك والمغارف بشكلها الحالي وحل محل ذلك الأدوات المصنوعة من الخشب. ولم تعرف النساء آنذاك أدوات الخلط والخفق الكهربائية، وبدلاً من ذلك كن يستخدمن المدقات الخشبية والنجر (الهاون). واستخدمت الشقوة في خض الحليب وصناعة مشتقاته.
أما الملالة فقد كانت من وسائل حفظ الطعام من التلف قديمًا حيث حلت مكان الثلاجة في وقتنا الحاضر، وهي سلة مكونة من ثلاثة حبال تعلق على الحائط بمسمار. أما الماء فكان يوضع في جرار مصنوعة من الفخار يطلق عليه اسم الزير وترفع عن الأرض بأخشاب لكي تتعرض للهواء.
وتذكر السيدة فوزية أن الصحفة المصنوعة من الخوص أو الخزف كانت آنذاك بديلًا للصحون والأطباق التي تصنع اليوم من خامات مختلفة مثل البايركس والصيني وغيره. وكان البعض يستعمل النحاس المطلي والطليس. وكانت المهفة بمثابة مكيف المطبخ وأداة استعجال النار.
ملكة خ ذكرت بدورها أن الوجار الخشبي كان الموقد المستخدم لصنع القهوة وكانت الجبنة الفخارية تستخدم بديلاً للدلة.
وأضافت أن المطبخ قديمًا بقدر ما كان شاقًا في مسألة الحصول على الوقود إلا أنه كان بسيطًا في المعدات ووسائل الطبخ وغير معقد الأصناف وكانت وجباته طبيعية خالية من الإضافات.
الأكل مواسم
ورغم المعاناة التي كانت المرأة تتكبدها في المطبخ قديمًا بسبب عدم توفر الأدوات المطبخية الحديثة إلا أن الطبخ في حد ذاته لم يكن متعبًا ومرهقًا.
وتوضح نورة بعض الأسباب وراء ذلك قائلة: قبل الطفرة كان كل شيء من صنع اليد وكان معروفًا أن اللحم يتزامن توفره مع الأضحية ويتم تجفيفه وحفظه، وكان مصدر الزيت الذي نستخدمه هو الحيوان خاصة الأضحية حيث يتم إذابة شحومها وحفظها. كما كانت الحبوب تحصد في مواسمها ثم تعد منزليًا حيث تجفف وتحفظ. وقد كانت أصناف الطعام محدودة وسهلة الصنع ولا تزال معروفة حتى الآن كوجبات شعبية.
وتضيف كان المطبخ سعودي خالصًا بأكلاته البسيطة والمعروفة؛ لذلك لم يكن يسبب إعدادها التعب والإرهاق.
ولا ينكر أحد أن وسائل الطبخ الحديثة وأدوات المطبخ العصرية قدمت للمرأة المزيد من الراحة والرفاهية. ورأت ملكة أن المطبخ الحديث اختصر كثيرًا من الوقت والجهد على المرأة وحقق لها الرفاهية خاصة في ظل تحسن الأوضاع المعيشية والطفرة الاقتصادية إذ اختلفت الخدمة المطبخية وصارت أسهل ما يكون.
واعتبرت السيدة فوزية أن المرأة تمكنت بفضل المعدات والوسائل المطبخية الحديثة أن تنعم بالراحة وتعد أطيب الطبخات متعددة الأصناف في اقصر وقت، بل أن تعد مختلف الوجبات بدون مشقة. كما انعكس الترف في نوعية المأكولات نفسها وإمكانية حفظها وجاهزية تقديمها. كما وفرت هذه الوسائل الحديثة الوقت أمام المرأة من أجل التعليم والعمل والمشاركة الاجتماعية.
طعم زمان أحلى
لكن هل كان لاختلاف أدوات ووسائل الطبخ في الوقت الحاضر عن أيام زمان تأثير على تغير طعم الأكلات والطبخات؟
اتفق جميع من قابلتهن (عالم الغذاء) على أنه رغم المعاناة في استخدام الوسائل القديمة إلا أن الطعم يظل في الذاكرة مختلفًا وأحلى.
وأعربت نورة عن اعتقادها أن السبب في تغير طعم الأكلات في الوقت الحاضر عما هو الوضع قديمًا راجع على الأرجح إلى المواد المضافة للأغذية مثل الملونات والمواد الحافظة.
واتفقت معها ليلى، مشيرة إلى أن الأطعمة كانت طازجة في الماضي وكانت تحفظ بدون إضافات وعلى الأغلب بطرق التجفيف الطبيعية. اللحوم مثلاً كانت تجفف وتملح ما يجعلها تظل محتفظة بالنكهة والطعم. وكانت الحيوانات ترعى على مزروعات طبيعية ولا تتناول أي أعلاف صناعية أو هرمونات وكان الناس يشترون الذبيح اليومي طازجًا. وكان السمن والزبدة يصنعان من الألبان الطبيعية. وكانت الأصناف التي تزرع محدودة أما الآن فقد كثرت الألوان والأصناف وتعددت وسائل التخزين. ورأت الغامدي أن كل هذه العوامل مجتمعة إضافة إلى الحرارة الشديدة التي تتعرض لها الطبخات في الأفران وإضافة البهارات ذات النكهات غير الطبيعية قللت من حلاوة المذاق الطبيعي لأطعمة كانت أيام زمان طبيعية خالصة.
