للزراعة في جازان حكاية طويلة يمتد تاريخها مع تاريخ هذه المنطقة الباذخة الجمال، صاحبة الطقوس الجغرافية العجيبة، فرغم أن جزءاً منها يربض على شواطئ البحر الأحمر من خلال جزرها الـ 85 الساحرة في فرسان، نجدها تتعرج بين الوديان ذات التشكيلات العجيبة، ثم ما تلبث أن تصعد فيها إلى أعلى نقطة ممكنة في جبال فيفاء الشاهقة، قبل أن تعود إلى السهل فتجد المساحات الصحراوية خضراء على مد البصر.
ولو تتبعنا القاسم المشترك بين مختلف هذه المناطق، لوجدنا الزراعة بكافة أشكالها تشكل تراثاً وتقاليد لدى الأهالي، الذين يفاخرون بأنهم “أولاد مزارع”، حتى نالت المنطقة بجدارة لقب “سلة غذاء” المملكة، لوفرة المحاصيل وتنوعها وجودة الإنتاج علاوة على خصوبة التربة وخلو المحاصيل من المعالجات والأدوية والكيماويات.
وجبة “الخضير”
ورغم أن جازان تشتهر بزراعة الموز والمانجو والبرشومي، فإن مزارعها تشهد هذه الأيام، وفرة في محاصيل الذرة الرفيعة “البيضاء” و “الحمراء”، والتي تشهد إنتاجاً وفيراً وإقبالاً متزايداً من قبل الأهالي لانتقاء بعض سنابل الذرة وحصدها قبل اكتمال نضجها من مزارعهم أو شرائها من أصحاب مزارع الذرة، فيما يعرف بمحصول “الخضير” الذي يشكل أحد أبرز الوجبات في المنطقة.
ووفقاً لفرع وزارة البيئة والمياه والزراعة بالمنطقة، فإن المساحة المزروعة بجازان من الذرة الرفيعة جاوزت الـ60.000 هكتار، تنتج ما يزيد على 55000 طن من الحبوب.
وقال المزارع عبده بن اسماعيل الحازمي، إن زراعة الذرة في منطقة جازان قديمة جداً، فأجدادنا وآباؤنا كانوا يزرعون الذرة والدخن والسمسم، ويعتمدون بشكل كبير على مياه الأمطار، ولكن صناعة وجبة “الخضير” لا تتم إلا في مواسم محددة وليس على امتداد العام، لذلك يقبل عليه الناس، ويصبح تجارة مربحة للمزارعين، لشعبيته الكبيرة، فترى البائعين ينتشرون في الأسواق ومداخل المدن والقرى لبيع حزم الذرة الخضراء، ويقبل عليها الناس من أجل إعداد الأطباق اللذيذة من حبوب “الخضير”.
أما المزارع علي بن إبراهيم فقيه، فيصف زراعة الذرة بأنواعها في جازان بأنه لا تشكل مصدراً غذائياً لأهالي المنطقة فحسب، بل إنها كذلك مصدر دخل اقتصادي مهم لأغلب المزارعين حتى خارج جازان، فبعد الحصاد يتم بيع الحبوب بأسعار جيدة إضافة إلى بيع قصب الذرة لأكل المواشي، ثم يأتي “الخضير” في مواسمه وهو ليس مجرد صنف يؤكل أو يباع ويشترى بل موروث يتناقله الأبناء عن الآباء والأجداد، “إنه شيء بقي لنا من الماضي ونستمتع به في حاضرنا”.
طعم فريد
ويمتاز “الخضير” بنكهة مميزة وطعم فريد لا يمكن أن يجده المتذوق في الحبوب حال اكتمال نضجها، حيث يحرص الأهالي على تناول هذه الوجبة مع مواسم حصاد حبوب الذرة في ظاهرة تتكرر أربع مرات في العام.
وسمي “الخضِير” بهذا الاسم نسبة للون الأخضر لحبوب وسنابل الذرة، حيث تقطف ولونها أقرب إلى الخضرة ولا تزال في أولى مراحل النضج، وفي هذه المرحلة تكون حبات الذرة طرية وسهلة في الطحن من حبوب الذرة بعد الحصاد عندما تكون صلبة في العادة، بسبب اكتمال نضجها ومرور فترة زمنية عليها بعد حصادها واستخراجها من سنابلها وتخزينها بطرق يعرفها أصحاب المزارع خاصة كبار السن منهم.
وتشهد معظم أسواق المنطقة تواجد سنابل الذرة على شكل حزم تتراوح أسعارها بين 20 و 30 ريالاً للحزمة، حسب نوعية الخضير والكمية المتوافرة بكل حزمة، أو على شكل حبوب تم فصلها عن سنابلها ليباع الكيلو من البيضاء بـ 50 ريالاً ومن الذرة الحمراء بـ 30 ريالاً، نظراً للجودة الذي تتميز بها البيضاء.
وتتم عملية التحضِيِر للخضير كوجبة غذائية بطرق مختلفة، حيث يبدأ المزارعون بقطف سنابل الذرة، ويتم جمع الحبوب وفصل الحبة عن سنبلتها بعد ضربها بعصا في عملية تسمى “الخبيط”، لتقوم ربات البيوت بعد ذلك بجمع حبات الذرة وغسلها بالماء وطحنها بشكل جيد حتى تصبح جاهزة لعملية الطبخ.
وفي المطبخ تتفنن ربات المنازل في صناعة أطباق مختلفة من الخضير، فمنهن من تقدمه على شكل رغيف يتم إعداده وخبزه في التنور ليؤكل مع الحليب واللبن، أو تعد منه طبق “المرسة” بعد مزجه بالموز والسمن والعسل، أو طبق “المفالت” وهي وجبة غنية بمكوناتها الغذائية عالية القيمة وتتضمن الحليب والسمن والعسل، وهناك من يفضل تناول الخضير بعد طبخه بالماء سلقاً، ويضاف إليه الملح كما يفضله البعض مشوياً في سنابله، فيما يسمى بـ “الشويط”.