ربما لا يدري من يتناول لقمة من طعام «البكيلة» الشهي أن إعداده يتطلب مجهودًا شاقًا ورحلة عمل مضنية بين دروب الصحراء لجمع ثمار السَمْح، المكون الرئيس في هذا الطبق.
وتعتبر حرفة جمع السَمْح وتصنيعه، من الحرف التراثية التي يعرفها أهل الجوف جيدًا؛ حيث تشتغل بها عشرات الأسر، وتعيش من خيرها.
مجلة (عالم الغذاء) في عدد منشور عام 2006م التقت الحرفي «يوسف بن هاضل الشراري»، من أهالي الجوف، ويمتهن هذه الحرفة منذ أكثر من 25 عامًا.
في البداية تحدث الشراري – الذي ناهز الرابعة والستين من عمرة – قائلًا إن السَمْح نبات بري ينمو في منطقة الجوف، وضواحيها. ويعتبر عند أهالي الجوف أعظم صوغة (هدية) يرسلونها مع عيالهم لأقاربهم وأحبائهم.
وينمو هذا النبات، إذا شاء الله ومن على الجوف بسقوط الأمطار الخريفية المبكرة (أمطار الوسم)، التي تسقط عادة في أكتوبر ونوفمبر، وكلما زادت كمية الأمطار زادت كمية المحصول وزادت جودته. أما حصاد السَمْح، فيكون في مربعانية الصيف (القيظ)، التي تتميز بالحر الشديد، وتحل في شهر أغسطس.
ولا ينمو السَمْح في فصل الشتاء، مهما كثرت الأمطار؛ حيث إن كمية الرطوبة ودفء الجو، وطول فترة الإضاءة، عوامل تؤدي دورًا هامًا في إنباته في فصل الخريف.
استخراج الصبيب
وذكر الشراري أنه يواجه مشقة كبيرة في عملية جني ثمار السَمْح حيث يتطلب ذلك استعدادًا جيدًا من أجل البحث عنه في براري الشمال.
وقال: نخرج للبر، ونصطحب معنا عمالًا وطعامًا وماء، ونخيم في مناطق نمو السَمْح، حيث نعمل في الصباح الباكر قبل أن تشتد حرارة الجو، ونأخذ قيلولة في فترة الظهيرة.
وبعد الانتهاء من حصاد النبات، نجمعه فوق بعضه، ويتم درس النبات بالسيارات حيث تسير فوقه، فتنفصل السنابل التي تسمي بـ«الكعبر» عن النبات. بعد ذلك ننتظر هبوب الرياح؛ حتى نذري النبات فيذهب التبن والغبار ويتبقى الكعبر الذي نجمعه في أكياس ونخزنه.
ونستخرج كميات من الكعبر على قدر الحاجة ويتم غمرها في أوعية مملوءة بالماء، حيث تتفتح وتخرج منها حبوب صغيرة جدًا تسمى (صبيب) تترسب في القاع، بينما تطفو أغلفة الكعبر على سطح الماء.
بعد ذلك نقوم بتصفية الماء وإزالة القشور وجمع الصبيب، ثم تجفيفه تحت أشعة الشمس. وقد نقوم بتحميص الصبيب في صاج على نار هادئة، وذلك إذا كان الهدف استخدامه في صناعة البكيلة. أما إذا كان الهدف استخدامه في تصنيع الخبز، يتم طحنه نيئًا بدون تحميص.
ومن العجيب في الأمر، أن الصبيب، يظل صالحًا للاستخدام، ولا يفسد حتى لو تم تخزينه لمدة تزيد على الثمانين عامًا طالما بقي محفوظًا داخل سنابله، وابتعدت السنابل عن مصادر الرطوبة.
بكيلة وعصيدة
وحول استخدامات السَمْح، قال الشراري إن استخدامات السَمْح هي نفس استخدامات القمح، لكنه يتفوق عليه بمحتواه الغني من البروتين والألياف والعناصر النادرة.
ويحضر أهالي الجوف من طحين السَمْح ثلاثة أكلات شهيرة هي:
– العصيدة: تحضر كما تحضر العصيدة من طحين القمح.
– خبز الصفاة: يحضر على غرار تحضير الخبز المعد من طحين القمح أو الشعير.
– البكيلة: أكلة مشهورة ونادرة يمكن حفظها لفترة طويلة خاصة في فصل الشتاء. وتعد بإضافة طحين السَمْح إلى مقدار يماثله من تمر يسمى حلوة الجوف، ويتميز بليونته، ثم يعجنان معًا حتى يتمازجا تمازجًا كاملًا، وتؤكل على هذه الحال. وقد يضيف البعض إلى هذا المزيج قليلًا من السمن البلدي، أو زيت الزيتون.
ويبيع الشراري الكيلو من السَمْح بنحو 25 ريالاً، وبمثله يبيع الكيلو من السَمْح.
وعند سؤاله عن سبب غلاء منتجات السَمْح، أرجع ذلك إلى ارتفاع تكاليف حصاده التي تتطلب عمالة كثيرة.
وأكد الشراري أن السَمْح يتمتع بقيمة غذائية كبيرة وأنه يتفوق غذائيًا على القمح والدخن؛ نتيجة احتوائه على نسبة كبيرة من البروتين و8 عناصر معدنية مفيدة للجهاز المناعي، فضلاً عن نسبة كبيرة من الألياف الغذائية المفيدة للجسم.