يحيط بمدينة دمشق قريتان شهيرتان توسعتا اليوم حتى كادتا تصبحان مدينتين إحداهما قرية دوما والثانية قرية داريا.
واشتهرت الأولى بزراعة العنب الأحمر الذي أخذ اسمه من القرية إذ يسمى العنب الدوماني وكان إنتاج هذه القرية منه غزيرًا. أما الثانية فقد اشتهرت بخمسة أنواع من العنب هي: الديراني وهو من أجود وأرقى أنواع العنب والأسود الرومي والزيني وهو من أطيب أنواع العنب وقد انقرض اليوم أو كاد والرومي البلدي والحلواني.
ومن المؤسف أن أنواعًا من هذا العنب قد انقرضت وذلك بغزو العنب الحلواني والرومي البلدي الأمريكيين الذي يبلغ وزن العنقود أحيانًا ما يزيد على أربعة كيلوات.
ويتميز العنب الدوماني بشدة الحلاوة السكرية فيه؛ لذا كان يرغب فيه العمال الذي يقتضي عملهم جهدًا كبيرًا.
ولما كان إنتاج دوما كثيراً ولا يمكن تسويقه، عمد أهل دوما إلى عصر الزبيب الناتج عن العنب الدوماني وصنع دبس العنب منه، وهو من أطيب وألذ أنواع الدبس .
ومع عصر الزبيب لصنع الدبس يخرج سائل شديد الحلاوة يسمى (الصليبة) وكان أصحاب التذوق يحرصون على هذا السائل الشراب فيوصون أصحاب المعاصر أن يفردوا لهم قسمًا من هذا العصير وكان هؤلاء ينقلون هذا العصير من يومه خشية أن يصيبه التخمر، وكانوا يحرصون على أن ينقلوه إلى بيوتهم بجرار من الفخار لأن الفخار مبرد لما فيه ولا سيما أن دوما تبعد عن دمشق بنحو اثني عشر كيلو ولم تكن المواصلات السريعة متوفرة.
فإذا وصلت الصليبة إلى البيت كان لزامًا طبخها مباشرة لأن الثلاجات لم تكن منتشرة وخشية انقلابها إلى خمر. ويوضع هذا الشراب في قدر على النار ويترك حتى يسخن وتشتد حرارته ويبدأ بالغليان بعد أن يضاف إليه بعض الماء.. فإذا أصبحت حرارته مرتفعة ألقيت فيه كمية من الجوز (عين الجمل) وتركت حتى تنضج داخل الشراب وتشرب حلاوته ثم يضاف إلى المزيج محلول النشاء بالماء مع التحريك السريع المستمر حتى لا يتكثف النشاء فيكون كتلًا نشوية ضمن المزيج. كما يضاف إليه قطع من القرفة وحين ينضج المزيج ويذهب طعم النشاء، يسكب المزيج الذي يسمونه (خبيص الصليبة بالجوز) في أوعية زجاجية أو فخارية ويترك حتى يبرد ويقدم للآكلين.
إنني لا أزال أتذكر هذه الحلوى وقد كنت صغيرًا، وأتحسر اليوم لفقدها فقد كانت حلوى لذيذة ومغذية وتمد الجسم بطاقة كبيرة، وكان أهل دمشق ينتظرون وقت عصر الزبيب حتى يحصلوا على الصليبة.
ولابد من بيان أسباب انقراض هذه الحلوى، والسبب الرئيسي هو غزو العنب الأمريكي بنوعيه الحلواني والبلدي لزراعة العنب في سورية إذ إنه وافر المحصول وأشد مردودًا وربحًا، والسبب الثاني أن الفلاحين يميلون إلى بيع الزبيب بدلًا من عصره فهو أربح لهم، والسبب الثالث أن المزارع قد بدأت تنقرض ليحل بدلًا عنها الكتل الإسمنتية السكنية فانتصب البناء وزالت الكروم.
محمد سعيد المولوي