الصحة والغذاء

لمحات من تاريخ الطب العسكري

أسامة الزيني

ليست طبيعة المهمة وحسب هي ما تفصل الطب العسكري عن نظيره الطب العام، أو الطب الذي يمارس في حياة المدن، طبيعة الإصابات نفسها والأسلحة التي يصاب بها الجرحى العسكريون سواء في المعارك أو في ميادين المناورات، والجاهزية الكبرى وطبيعة الأداء التي ينبغي أن يتحلى بها من يشتغل بالطب العسكري، تجعل له طبيعته الخاصة. كما يدخل المشتغلون بالطب العسكري حول العالم في سباق مع الوقت للحاق بجميع التطورات الحديثة في التكنولوجيا العسكرية، فالأمراض التي يتعرض لها الجنود والمقاتلون أصبحت محوراً للعلم الحديث، تعقد لها الاجتماعات والندوات وتصدر عنها التقارير والتوصيات.

لكن هذا السباق نحو جديد الطب العسكري لتزويد القطاعات الطبية العسكرية حول العالم به، يبقى حلقة في مسلسل تطور الطب العسكري عبر العصور، فقبل الآن بقرون ظهر ما نطلق عليه اليوم الطب العسكري، ولعل إطلالة منا على هذا التاريخ، تكشف لنا كيف احتل الطب العسكري منزلة متقدمة بين أولويات الجيوش، حفظاً على العنصر البشري، المورد الأهم من بين موارد الجيوش، وأبقى قواها وأثمنها.

 

 

طب الحروب

 

طورت الحروب علم الجراحة وما يبعها من إجراءات تقديم الإسعافات المنقذة للحياة، وربما كان جراح نابليون الشهير البارون “دومينيك جين لاري” أحد أهم الأشخاص الذين يعزى لهم التقدم الكبير الحاصل في الطب العسكري بمعناه الحديث، إذ إنه وضع الأسس الأولية للطب العسكري، بعدما أرسى قاعدة الإخلاء السريع للجرحى في المعارك، وكان لاري أول من دفع بالفرق الجراحية، وكان يطلق عليها (MASH) اختصاراً، إلى مناطق متقدمة في الميدان من أجل تقديم خدمات طبية للجرحى وإنقاذهم في أسرع وقت ممكن.

 

كانت الحرب العالمية الثانية المختبر الكبير الذي أجريت فيه التجارب لإثبات نظرية البارون لاري من خلال تطبيق ما أراده على صعيدي الإخلاء السريع والدفع بالجراحين إلى الأمام وقد كان لأحد أشهر جراحي القلب الأميريكيين من ذوي الأصول العربية الدكتور مايكل دبغي الذي كان يعمل خلال الحرب العالمية الثانية برتبة عقيد جراحاً في الجيش الأمريكي فضل السبق إلى اقتراح إيجاد مجاميع جراحية متنقلة ترتبط بمستشفى ميداني قريب من منطقة القتال تقوم بتقديم خدماتها، حيثما دعت الحاجة، على أن تكون مسؤوليتها الإدارية خفيفة من أجل منحها المرونة والقابلية لحركة بسرعة وكفاءة.

واعتمد الجيش الأمريكي هذا المبدأ الذي اقترحه الدكتور دبغي وفريقه وكانت النتائج مذهلة؛ ما دعا قيادة الطب العسكري الأمريكية إلى تكريم الدكتور دبغي بأحد أرفع الأوسمة الأمريكية.

ويسجل تاريخ الطب العسكري أن الجيش الخامس الأمريكي كان أول من استخدم هذه الوحدات الجراحية المتنقلة في أثناء الحرب العالمية الثانية في عام 1943، حيث كان محور عملياته يشمل شمال إفريقيا وجزيرة صقلية وإيطاليا، وكان تعداده آنذاك يبلغ 160 ألف مقاتل. وقد أبدت هذه الوحدات الجراحية المتنقلة مرونة واستجابة عالية للحركة مع التحركات العسكرية وقدمت خدمات ذات جودة عالية كانت فارقة في صفوف الجنود الأمريكيين.

وخلال إنزال نور مادي الشهير تمتعت أربعة جيوش أمريكية (الأول والثالث والخامس والتاسع) بخدمات الوحدات الجراحية المتنقل؛ الأمر الذي قلل من نسب الوفيات بشكل كبير.

وفي عام 1950، ومع بداية الحرب الكورية، أطلق على هذه الوحدات الجراحية المتنقلة اسم “مستشفى الجيش الجراحي المتنقل”.

استخدمت المستشفيات المتنقلة بكثافة في الحرب الكورية 1950-1953 حيث قدمت عشرة مستشفيات متنقلة الإسناد لأربع فرق عسكرية أمريكية (يبلغ عدد مقاتلي الفرقة العسكرية الأمريكية 15 ألفاً إلى 20 ألفاً).

ومع بداية الستينات تغيرت فلسفة استعمال المستشفيات المتنقلة بتغير نوعية المعارك في فيتنام حيث كانت حرب العصابات أو ما يعرف بالحرب غير النظامية هي الطراز السائد. وحدثت منذ ذلك الحين تغييرات كبيرة في وسائل الإخلاء وتطورت نوعية التقنيات المستعملة لإنقاذ الحياة، وترسخت مبادئ الإخلاء الجوي أو البري للخسائر، الأمر الذي قلل من دور مستشفيات الميدان المتنقلة وخاصة مع عمليات تقدم سريعة بوحدات مشاة خفيفة مسندة جوا.

وشهد عام 2005 إغلاق الولايات المتحدة الأمريكية آخر مستشفى متنقل يعمل لخدمة الجيش، وأحالته إلى التقاعد. لكن هذا لا يعني أنه لم يعد هناك دور لمستشفيات الميدان المتنقلة، حيث إن حالات الكوارث أو الحروب التقليدية ما زالت من دواعي استعمال مثل هذا النمط من الخدمات الطبية.

 

في التاريخ الإسلامي

 

أما تاريخ الطب العسكري في المنطقة العربية، فيعود إلى العصر الجاهلي، حيث كان العرب آنذاك يبرعون في الطب، فكان الطب معروفا في حضَرِ الجزيرة العربية – وخصوصًا المتاخِمة لإمبراطوريتي فارس وبيزنطة الروم، كحيرة المناذرة وبصرى الغساسنة ومدن اليمن – أعلى مستوى من طب الأعراب سكان داخل الجزيرة؛ وذلك لاختلاط أولئك بالأعاجم الذين كانوا عهدئذٍ أكثر معرفة من العرب بالعلوم الطبية، وأن يكون سكان المدن أيضًا أكثر حاجة إلى تعلم هذه الصناعة فتعلموها بالدراسة والتقليد، كما سافر بعضهم طلبًا لعلومها إلى ديار اليمَن وفارس، وهناك استزادوا من مَعارفها، وتدرَّبوا على ممارستها، ورجَعوا إلى بلادهم فخورين بما تعلموه من معارف جديدة في هذه الصناعة. ولم يكن بالطبع هناك ما يعرف بالطب العسكري اصطلاحاً كما هو قائم اليوم، لكن المهمة العسكرية / الحربية لمن كانوا يمتلكون خبرة الطبابة آنذاك كانت قائمة.

ومع الفتوحات الإسلامية في صدر الإسلامية في صدر الإسلام والعهود الإسلامية اللاحقة دعت الحاجة بقوة إلى وجود من يقدم خدمة التمريض لجرحي الجيوش الإسلامية، المهمة التي برع فيها الرجال والنساء على التوازي، مع رجحان لصالح كفة النساء.

ومع المعارك والغزوات الإسلامية بدأت تظهر أسماء لأطباء أدوا مهام عسكرية، مثل أثير بن عمرو السكوني الطبيب الكوفي الذي يَذكر ياقوت الحموي في “معجم البلدان”: “أنه لما جرح علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – وجُمع له الأطباء، لما ضرَبه عبدالرحمن بن ملجم، وكان أبصرهم بالطب أثير بن عمرو السكوني الطبيب الكوفي المعروف بابن عمر”.

والساعدي الطبيب الذي ظهر اسمه مع الرواية التاريخية “عندما ضرَب البرك بن عبدالله معاوية بن أبي سفيان بالسيف ليلة ضُرب فيها علي – رضي الله عنه – بعث معاوية – رضي الله عنه – إلى الساعدي الطبيب فعالجَه فشُفي”

أما طبيبات المعارك الإسلامية اللائي قدمن الإسناد الطبي للجيوش الفاتحة فمن بينهن رفيدة بنت سعد الأسلمية التي تعلمت التمريض والتطبيب من والدها الكاهن سعد الأسلمي، بعد إسلامها قامت بتعليم صاحباتها المؤمنات التمريض ورعاية الجرحى، ونُصبَت لها خيمة في المدينة المنورة في مسجد الرسول – صلى الله عليه وسلم – للقيام بالتمريض والتطبيب، “وهكذا كانت رفيدة بنت سعد الأسلمية أول ممرضة ومطبِّبة في الإسلام، وهي بذلك منشئة أول مدرسة للتمريض في العالم، وصاحبة أول عيادة في الإسلام، وواضعة للقواعد الصحيحة للتمريض”؛

وهناك نسيبة بنت كعب المازنية. اشتركت في غزوة بدر، ويُمكن عدها أول ممرضة في الإسلام.

وأميمة بنت قيس الغفارية التي خرجَت زعيمةً للممرضات ولما تبلغ السابعة عشرة من عمرها في غزوة خيبر، وقد أكبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – حسنَ بلائها فقلَّدها بعد انتهاء الغزوة قلادة تُشبِه الأوسمة الحربية في عصرنا الحاضر.

بالإضافة إلى قائمة طويلة من المسلمات اللائي قدمن خدمة التمريض للجنود في الغزوات الإسلامية، ومن بينهن: الربيع بنت معوذ، وأم سليم حلمان بن خالد، وأم سنان الأسلمية، وأم أيمن (بركة بنت ثعلبة)، وحمنة بنت جحش، وأم عطية الأنصارية، وأم رمثة بنت هشام بن عبدالمطلب، وبحينة بنت الحارث، وأم سليط، وأم الحارث الأنصارية، وأم زياد الأشجعية، وسلمى مولاة الرسول – صلى الله عليه وسلم، وصفية بنت عمر بن الخطاب، وأم الضحاك بنت سعد الأنصارية، وأم منيع عمر بن عدي بن سنان، ومعاذة الغفارية، وليلى الغفارية، وأم ورقة بنت عبد بن الحارث (الشهيدة).

وعن انس ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغز وبأم سليم ونسوة معها من الانصار ، يسقين الماء ، ويداوين الجرحى.

وعن ربيع بنت معوذ : كنا مع النبي (صلى الله عليه وسلم) نسقى ونداوى الجرحى ، ونرد القتلى.

وعن حشرج ابن زياد الاشجعي ، عن جدته ام ابيه ، انها قالت : انها خرجت في

خيبر مع خمس نسوة اخريات لاجل مداواة الجرحى وغير ذلك ، فاسهم لهن (صلى الله عليه وسلم) تمرا.

وعن ام سلمة ، قالت : كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يغزو بنا نسوة من الانصار نسقى ونداوى الجرحى.

وعن الزهري : كانت النساء تشهدن مع النبي (صلى الله عليه وسلم) المشاهد ، ويسقين الماء ويداوين الجرحى. ومثل ذلك عن مالك في العتيبة.

وسئل ابراهيم عن جهاد المرأة ، فقال : كن يشهدن مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فيداوين الجرحى ، ويسقين المقاتلة.

وعن يوم عماس يقول المسعودي وغيره : « واقبل المسلمون على قتلاهم ، فأحرزوهم ، وجعلوهم وراء ظهورهم ، وكان النساء والصبيان يدفنون الشهيد ،

ويحلمون الرثيث الى النساء ، ويعالجونهم من كلومهم الخ .. ».

 

دور حضاري لأطباء الحرب

 

ويبدو أن أطباء المعارك في الإسلام كانت لهم بصمة أخرى على تاريخ الطب الإسلامي والعربي، إذ كانوا يسهمون في نقل علوم الطب إلى البلدان التي تفتحها الجيوش التي يرافقونها، ومن ذلك ما استفادته فلسطين التي سجل تاريخه الطبي في مرحلة من مراحله تلقي أطبائها جانباً من علومهم الطبية على أيدي الجيوش الإسلامية التي فتحت بلاد الشام 15هـ/636م وكان من بين أفرادها من يُعنى بالجرحى والمصابين بالكسور، و من يهتم بالخيول، فنقل هؤلاء ممارساتهم الطبية وعقاقيرهم المستمدة من بيئة الجزيرة العربية إلى فلسطين.

من الأطباء العرب الأوائل الذين اشتهروا خالد بن يزيد بن معاوية حكيم بني سفيان ، حيث عمل في الكيمياء و الطب.

 

المصادر والمراجع:

 

  • إرث العسكرية والجراحية، الرائد بوكير الملك والعقيد إسماعيل جاتوي، بحث منشور بصحيفة المركز الوطني لمعلومات التكنولوجيا الحيوية (NCBI) بالولايات المتحدة الأمريكية.
  • (الدكتور كمال السامرائي: مختصر تاريخ الطب العربي 1: 241 – 242).
  • الأطباء في الجزيرة العربية في فجر الإسلام، د. محمود الحاج قاسم محمد، مقال منشور، شبكة الألوكة.
  • مُعجم البلدان، ياقوت الحموي، (1: 93).
  • ممرضة الإسلام الأولى، د. سعاد حسين، بحث قدِّم للمؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي الكويت1981″.
  • سيرة ابن هشام ج ٣ ص ٢٥٠
  • المنتقى لابن تيمية ج ٢ ص ٧٦٨ .
  • فتح الباري في صحيح البخاري، ج ١٠، ص ١١٥.
  • مسند أحمد ج ٥ ص ٢٧١
  • مروج الذهب، المسعودي، ج ٢ ص ٣١٧.

 

اضف تعليق

تابعنا

تابع الصحة والغذاء على مختلف منصات التواصل الاجتماعي

الصحة والغذاء إحدى بوابات دار   دار اليوم