الصحة والغذاء

جنوب إفريقيا… أكلة الأفيال والغزلان

 لم يخطئ من وصف المطبخ الجنوب إفريقي بأنه «مطبخ قوس قزح»؛ فهو يضم فنونًا عديدة من المطابخ العالمية على نحو يعكس العمق الثقافي المتنوع لهذا البلد الذي يعيش فيه نحو 40 مليون شخص يتحدثون 11 لغة مختلفة.

لذلك يمكن تشبيه المطبخ الجنوب إفريقي بقدر على نار تفوح منه روائح عديدة، أوروبية وآسيوية وإفريقية؛ حيث تمتزج المذاقات الحامضية والحلوة لسكان الجزر الملاوية، مع البهارات الحارة لسكان الهند والصين، مع هدوء المذاقات الفرنسية والألمانية والبرتغالية.

ما قبل الاستعمار

 لكن ماذا كان حال المطبخ الجنوب إفريقي في الماضي البعيد؟

يمكن تقسيم مراحل تطور المطبخ الجنوب إفريقي إلى مرحلتين أساسيتين لكل مرحلة منها ملامحها التي تميزها وهما:

المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل الحقبة الاستعمارية (أي ما قبل القرن السابع عشر الميلادي)، وفي هذه المرحلة نجد أن الصورة التي يستحضرها الذهن عادة عند الحديث عن الطعام الإفريقي كانت هي القائمة بالفعل، حيث مشاهد صيد الحيوانات في البراري الإفريقية الواسعة، وصيد الأسماك وحيوانات البحر والنهر، وذلك بالطرق البدائية التقليدية.

فقد تميز المطبخ الجنوب إفريقي في مرحلة ما قبل قدوم الاستعمار، بتناول تشكيلة واسعة من الفواكه والمكسرات وأوراق الأشجار والنباتات وغيرها من منتجات الطبيعة، أو لحوم الحيوانات البرية التي يتم صيدها، فضلاً عن لحوم وألبان الماشية التي رعتها بعض القبائل.

كان المحار والربيان والفقمة مثلاً الطعام المفضل لسكان السواحل (strandlopers)، خصوصًا جنوب البلاد نواحي رأس الرجاء الصالح.

واحترف أفراد قبائل السان (San)، صيد الحيوانات البرية؛ لذا لم يكن هؤلاء بحاجة إلى أصناف المأكولات البحرية أو لحوم الحيوانات الأليفة لتعبئة قائمة طعامهم اليومية. وبجانب لحوم الغزلان والفيل وما شابههما، اعتمد طعام أفراد هذه القبائل على النباتات والزهور البرية، أمثال أوراق الخردل البري، والهليون البري، والزهور الطافية على سطوح البحيرات والأنهار.

واشتغل أفراد قبائل الخوي (Khoi) في رعي الماشية؛ لذا اشتق جل طعامهم من ألبان ولحوم هذه الأنعام التي ربوها. فمثلًا كانت وجبتهم المفضلة وتسمى الكاينغ (kaiings)، عبارة عن قطع لذيذة مقرمشة من شحم الخروف المقلي مع الملفوف البري.

أما القبائل التي قطنت شمال البلاد، فكانت تشتق بروتينها ليس فقط من لحوم حيوانات الصيد، ولكن أيضًا من الحشرات التي تجمعها من بين أغصان الأشجار، مثل النمل الأبيض والجراد، وديدان الموبين (mopane worms) وهي ديدان كانت تعيش على أشجار الموبين. وكانت قبائل الفندا (Venda) والتشونجا (Tsonga) والبيدي (Pedi) تأكل هذه الديدان إما مقلية أو مشوية أو مطبوخة في يخنة خاصة مفضلة إليهم. وما زالت هناك أطباق شهيرة في جنوب إفريقيا تعد من هذه الديدان ويتناولها البعض، حتى إن طرق حفظ هذه الديدان تطورت بشكل كبير من الحفظ بالتجفيف تحت أشعة الشمس والتدخين حتى الحفظ في معلبات تتوفر في البقالات الكبرى في مختلف أنحاء البلاد.

الحقبة الاستعمارية

ومع بدء الحقبة الاستعمارية طرأ على عادات الغذاء القديمة في جنوب إفريقيا كثيرًا من التغير.

ومع حلول القرن السابع عشر الميلادي، حط المستعمرون الهولنديون والألمان والفرنسيون، والبريطانيون، رحالهم عند الشواطئ الجنوبية من هذه البلاد، وتحديدًا عند رأس الرجاء الصالح أو مدينة الكاب (Cape Town) كما تعرف اليوم.

لحم مجفف

وجاء الأوروبيون إلى شواطئ الكاب بحثًا عن الذهب والجو العليل، وبطبيعة الحال جلب هؤلاء معهم عادات طبخهم. ويعرف المطبخ التقليدي الأوروبي لجنوب إفريقيا بالمطبخ الهولندي لمدينة الكاب (Cape Dutch). إلا أن الغريب في الأمر أن أساس هذه الوجبات لا يعود أساسًا إلى المطبخ الهولندي نفسه، ولكن إلى ما جلبه معهم الهولنديون من التقاليد الغذائية للبلاد التي استعمروها مثل جزر جاوا وماليزيا والهند.

ففي عام 1652 جاء إلى رأس الرجاء الصالح القائد البحري الهولندي يان فان ريبيك (Jan van Riebeeck) يبحث عن نقطة استراحة له وللسفن الهولندية الأخرى في طريقها الطويل من الهند نحو الغرب. واضطرت الجالية الهولندية في ذلك الحين إلى زراعة الأرض هناك. لكن الهولنديين اكتشفوا أن الاعتماد على العمالة المحلية من القبائل الإفريقية أمر غير مجد، لذلك جلبوا معهم آلافًا من العبيد من جاوا والجزر المحيطة التي كانوا يستعمرونها. وجلب هؤلاء العبيد، بدورهم تقاليدهم الغذائية معهم.

ولهذا السبب، فإن المطبخ الهولندي التقليدي لمدينة الكاب هو في الأساس مطبخ جاوي ماليزي.

التأثير الهندي

وبعد حوالي قرنين من نزول أول أفواج العبيد القادمة من الجزر الجاوية عند مدينة الكاب، رست سفينة محملة بالعمالة الهندية من المسلمين والهندوس، عند مدينة دربان على الساحل الشرقي للبلاد ليعملوا في حقول قصب السكر. وبعد انتهاء عقودهم التي امتدت 10 سنوات قرر هؤلاء البقاء في البلاد. ثم جاء التجار من بعدهم فأحبوا هذه البلاد مثلما أحبها مواطنوهم من العاملين. وهكذا استقر التأثير الهندي على طعام جنوب إفريقيا.

وقد نما تأثير شعبية المطبخ الهندي خلال العقود التالية، حتى إن سكان السواحل الشرقية في البلاد، من قبائل الزولو (Zulu)، تبنوا وجبة الكاري المفضلة عند الهنود.

وقد أضافت الوجبات الهندية المتنوعة الكثير إلى نكهة المطبخ الجنوب إفريقي، حتى إن البعض يزعم أن طبق الكاري مع الأرز هو الطبق القومي لسكان جنوب إفريقيا قاطبة الآن. وبجانب الكاري هناك المخللات الهندية (atjars) والسمبوسك الهندي والبرياني الهندي. وقد ذاع صيت مطاعم التندوري (tandoori) الهندية إلى حد يفوق الوصف، خلال السنوات العشر الماضية.

مكانة الذرة الخاصة

ولاستكمال صورة المطبخ الجنوب إفريقي، نشير إلى أن الذرة تعد أهم عنصر في أطباق هذا المطبخ، فالكثير من سكان البلاد، سواء كانوا بيضًا أو سودًا، قد لا يضيرهم، بل قد يشعرون بالسعادة إذا لم يتناولوا شيئًا كل يوم آخر سوى الذرة بأشكالها المختلفة.

والسر في ذلك يعود إلى أن نحو نصف الأراضي المزروعة في جنوب إفريقيا هي أراض مزروعة بالذرة (mielie). ولكل طائفة من الطوائف التي تؤلف القبائل التقليدية الحالية في جنوب إفريقيا، الكوزا (Xhosa) والزولو (Zulu) والسوثو (Sotho) والتسوانا (Tswana) والسوازي (Swazi)، طرقها الخاصة والمختلفة في إعداد وجبتهم من الذرة، ولكن الجميع يجمعون على ضرورة وجودها في المائدة كل يوم.

وهناك عدد من الأطباق التقليدية الأخرى التي يتم إعدادها من بعض الخضراوات التقليدية المحلية خلاف الذرة أمثال:

– أطباق معدة بالأمادومبي (amadumbe)، وهو نوع من البطاطا الحلوة.

– أطباق معدة بالموروجو (morogo)، وهي أي أوراق خضراء ابتداء من أوراق الفول، وانتهاء بالبنجر.

– أطباق معدة بأنواع الفول.

– أطباق تقوم على القثاء المحلاة ببعض القرفة.

ومن الهوايات المحببة أيضًا عند سكان جنوب إفريقيا من جميع الفئات، هواية شي شرائح اللحم (braai). ويكاد لا توجد عائلة جنوب إفريقية، إلا وقد خرجت إلى البراري الواسعة الانتشار في يوم من الأيام لشي شرائح اللحم أو السجق التقليدي الذي يعرف باسم سجق المزارعين (Boerewors).

وابتكر سكان البلاد طرقًا جديدة لتناول اللحم المشوي. وعلى سبيل المثال، تحتفظ قبائل السان بالجزء المتبقي من اللحم عن حاجتها وذلك بتجفيفها في الهواء حتى تستعملها في أوقات المجاعة أو قلة الطعام. أما الأوروبيون القدامى فطوروا من ذلك بأن جلبوا معهم الملح والفلفل والخل وبعض الأعشاب ونقعوا اللحم فيها قبل أن يجففوه. أما النازحون الأوائل من الأوروبيين، فقد أعطوا شرائح اللحم المجفف هذه اسمًا خاصًا، هو بلتونج (biltong)، وصنعوه من لحوم عدة، منها لحوم البقر ولحوم النعام.

الغزو السريع

ونشير إلى جنوب إفريقيا مثل غيرها من دول العالم غزتها الأكلات السريعة المستوردة مثل مطاعم الماكدونالدز والبرغر كينغ ستراها في كل مكان. ورغم أن الأكلات المحلية ما زالت هي المهيمنة على معظم الساحات، حتى الآن، إلا برنامج الطعام اليومي بين فئات الشباب بدأ يخلو شيئًا فشيئًا من أية وجبات محلية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إلى متى يستطيع المطبخ المحلي أن يقاوم فلول الأكلات السريعة التي تهاجم سواحل هذه البلاد الجميلة؟!

ترجمة وإعداد: د. سعود سيد

تابعنا

تابع الصحة والغذاء على مختلف منصات التواصل الاجتماعي

الصحة والغذاء إحدى بوابات دار   دار اليوم